إنا أعتدنا للظالمين نارا). . أعددناها وأحضرناها . .
فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها , ولا تستغرق زمنا لإعدادها ! ومع
أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة:كن . فيكون . إلا أن التعبير
هنا بلفظ(اعتدنا)يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد , والأخذ المباشر إلى النار
المعدة المهيأة للاستقبال !
وهي نار ذات سرادق يحيط
بالظالمين , فلا سبيل إلى الهرب , ولا أمل في النجاة والإفلات . ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة
, أو يكون فيه استرواح !
فإن استغاثوا من الحريق
والظمأ أغيثوا . . أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول , وكالصديد الساخن في قول ! يشوي
الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه (بئس الشراب)الذي يغاث به
الملهوفون من الحريق ! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء . وفي ذكر
الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير . فما هم هنالك للارتفاق , إنما هم للاشتواء !
ولكنها مقابلة مع ارتفاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات هنالك في الجنان . . وشتان شتان
!
وبينما هؤلاء كذلك إذا
الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات عدن . للإقامة . تجري من تحتهم الأنهار بالري وبهجة
المنظر واعتدال النسيم . وهم هنالك للارتفاق حقا (متكئين
فيها على الأرائك)وهم رافلون في
أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن
ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ
فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ
لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا
لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ
وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا
خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ
أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ
نَفَراً (34)
وَدَخَلَ
جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا
أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً
مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)
لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلَا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن
تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ
وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا
حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ
صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ
مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ
طَلَباً (41)
ألوان من الحرير . من سندس ناعم خفيف
ومن إستبرق مخمل كثيف . تزيد عليها أساور من ذهب للزينة والمتاع: (نعم
الثواب وحسنت مرتفقا)!
ومن شاء فليختر . ومن
شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن شاء فليجالس فقراء المؤمنين , وجبابهم تفوح منها رائحة العرق
أو فلينفر . فمن لم ترضه رائحة العرق من تلك الجباب , التي تضم القلوب
الزكية بذكر الله , فليرتفق في سرادق النار , وليهنأ بدردي الزيت أو القيح يغاث به من
النار . .
الدرس الثالث:32 - 44 قصة
صاحب الجنتين
ثم تجيء قصة الرجلين
والجنتين تضرب مثلا للقيم الزائلة والقيم الباقية , وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة
الحياة , والنفس المعتزة بالله . وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس:صاحب الجنتين
نموذج للرجل الثري , تذهله الثروة , وتبطره النعمة , فينسى القوة الكبرى التي تسيطر
على أقدار الناس والحياة . ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى , فلن تخذله
القوة ولا الجاه . وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه , الذاكر لربه , يرى
النعمة دليلا على المنعم , موجبة لحمده وذكره , لا لجحوده وكفره . وتبدأ القصة بمشهد
الجنتين في ازدهار وفخامة:
(واضرب لهم مثلا
رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب , وحففناهما بنخل , وجعلنا بينهما زرعا
. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا , وفجرنا خلالهما نهرا . وكان له
ثمر). .
فهما جنتان مثمرتان من
الكروم , محفوفتان بسياج من النخيل , تتوسطهما الزروع , ويتفجر بينهما نهر . . إنه المنظر
البهيج والحيوية الدافقة والمتاع والمال:
(كلتا الجنتين آتت
أكلها ولم تظلم منه شيئا). . ويختار التعبير كلمة(تظلم)في معنى تنقص وتمنع , لتقابل بين
الجنتين وصاحبهما الذي ظلم نفسه فبطر ولم يشكر , وازدهى وتكبر .
وها هو ذا صاحب الجنتين
تمتليء نفسه بهما , ويزدهيه النظر إليهما , فيحس بالزهو , وينتفش
كالديك , ويختال كالطاووس , ويتعالى على صاحبه الفقير: (فقال لصاحبه - وهو يحاوره - أنا
أكثر منك مالا وأعز نفرا). .
ثم يخطو بصاحبه إلى
إحدى الجنتين , وملء نفسه البطر , وملء جنبه الغرور ; وقد نسي الله , ونسي أن يشكره على ما
أعطاه ; وظن أن هذه الجنان المثمرة لن تبيد أبدا , أنكر قيام الساعة أصلا , وهبها قامت
فسيجد هنالك الرعاية والإيثار ! أليس من أصحاب الجنان في الدنيا فلا بد أن يكون جنابه
ملحوظا في الآخرة !
(ودخل جنته وهو ظالم
لنفسه . قال:ما أظن أن تبيد هذه أبدا , وما أظن الساعة قائمة . ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا
منها منقلبا)!
إنه الغرور يخيل لذوي
الجاه والسلطان والمتاع والثراء , أن القيم التي يعاملهم بها أهل هذه الدنيا الفانية تظل
محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى ! فما داموا يستطيلون على أهل هذه الأرض فلا بد أن
يكون لهم عند السماء مكان ملحوظا !
فأما صاحبه الفقير الذي
لا مال له ولا نفر , ولا جنة عنده ولا ثمر . . فإنه معتز بما هو أبقى وأعلى . معتز بعقيدته
وإيمانه . معتز بالله الذي تعنو له الجباه ; فهو يجبه صاحبه المتبطر المغرور منكرا
عليه بطره وكبره , يذكره بمنشئه المهين من ماء وطين , ويوجهه إلى الأدب الواجب في حق
المنعم . وينذره عاقبة البطر والكبر . ويرجو عند ربه ما هو خير من الجنة
والثمار:
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)
وَلَمْ تَكُن
لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ
الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
(قال له صاحبه - وهو
يحاوره - أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ? لكنا
هو الله ربي , ولا أشرك بربي أحدا . ولولا إذ دخلت جنتك قلت:ما شاء الله لا قوة إلا
بالله . إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا . فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك , ويرسل عليها
حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا , أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا). .
وهكذا تنتفض عزة الإيمان
في النفس المؤمنة , فلا تبالي المال والنفر , ولا تداري الغنى والبطر , ولا تتلعثم في الحق ,
ولا تجامل فيه الأصحاب . وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال , وأن
ما عند الله خير من أعراض الحياة , وأن فضل الله عظيم وهو يطمع في فضل الله . وأن
نقمة الله جبارة وأنها وشيكة أن تصيب الغافلين المتبطرين .
وفجأة ينقلنا السياق من
مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار . ومن هيئة البطر , والاستكبار إلى هيئة
الندم والاستغفار . فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن:
(وأحيط بثمره فأصبح
يقلب كفيه على ما أنفق فيها , وهي خاوية على عروشها , ويقول:يا ليتني لم أشرك بربي أحدا). .
وهو مشهد شاخص
كامل:الثمر كله مدمر كأنما أخذ من كل جانب فلم يسلم منه شيء . والجنة خاوية
على عروشها مهشمة محطمة . وصاحبها يقلب كفيه أسفا وحزنا على ماله الضائع وجهده
الذاهب . وهو نادم على إشراكه بالله , يعترف الآن بربوبيته ووحدانيته . ومع أنه لم يصرح بكلمة الشرك ,
إلا أن اعتزازه بقيمة أخرى أرضية غير قيمة الإيمان كان شركا ينكره الآن , ويندم عليه ويستعيذ
منه بعد فوات الأوان .
هنا يتفرد الله بالولاية
والقدرة:فلا قوة إلا قوته , ولا نصر إلا نصره . وثوابه هو خير الثواب , وما يبقى عنده
للمرء من خير فهو خير ما يتبقى:
(ولم تكن له فئة
ينصرونه من دون الله , وما كان منتصرا . هنالك الولاية لله الحق , هو خير ثوابا وخير عقبا). .
ويسدل الستار على مشهد
الجنة الخاوية على عروشها , وموقف صاحبها يقلب كفيه أسفا وندما , وجلال الله يظلل الموقف , حيث
تتوارى قدرة الإنسان . .
الدرس الرابع:45 - 46 زوال
الدنيا وزينتها وبقاء الآخرة
وأمام هذا المشهد يضرب
مثلا للحياة الدنيا كلها . فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلا قصيرة قصيرة , لا بقاء لها ولا
قرار:
(واضرب لهم مثل
الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض , فأصبح هشيما
تذروه الرياح , وكان الله على كل شيء مقتدرا). .
هذا المشهد يعرض قصيرا
خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال . فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ
الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ مُّقْتَدِراً (45) الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ
أَمَلاً (46)
يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض .
والنبات لا ينمو ولا ينضج , ولكنه يصبح هشيما تذروه الرياح . وما بين ثلاث
جمل قصار , ينتهي شريط الحياة .
ولقد استخدم النسق اللفظي
في تقصير عرض المشاهد . بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء:
(ماء أنزلناه من
السماء)ف (فاختلط به نبات الأرض)ف (أصبح هشيما تذروه الرياح)فما أقصرها حياة
! وما أهونها حياة !
وبعد أن يلقي مشهد الحياة
الذاهبة ظله في النفس يقرر السياق بميزان العقيدة قيم الحياة التي يتعبدها الناس في الأرض ,
والقيم الباقية التي تستحق الاهتمام:
(المال والبنون زينة
الحياة الدنيا , والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا , وخير أملا). .
المال والبنون زينة الحياة
; والإسلام لا ينهى عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات . ولكنه يعطيها القيمة التي
تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد .
إنهما زينة ولكنهما ليسا
قيمة . فما يجوز أن يوزن بهما الناس ولا أن يقدروا على أساسهما في الحياة . إنما القيمة الحقة
للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات .
وإذا كان أمل الناس عادة
يتعلق بالأموال والبنين فإن الباقيات الصالحات خير ثوابا وخير أملا . عندما تتعلق بها
القلوب , ويناط بها الرجاء , ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الجزاء .
وهكذا يتناسق التوجيه
الإلهي للرسول [ ص ] في أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم في الغداة والعشي يريدون وجهه . مع
إيحاء قصة الجنتين . مع ظل المثل المضروب للحياة الدنيا . مع هذا التقرير الأخير للقيم في
الحياة وما بعد الحياة . . وتشترك كلها في تصحيح القيم بميزان العقيدة . وتتساوى
كلها في السورة وفق قاعدة التناسق الفني والتناسق الوجداني في القرآن .
الوحدة الثالثة:47 - 59
الموضوع:بعض مشاهد القيامة وموقف الكفار في الدنيا وعذابهم في الآخرة
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى
الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن
نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً (48) وَوُضِعَ
الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا
وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً
إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
(49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ
بَدَلاً (50)
مقدمة الوحدة
انتهى الدرس السابق
بالحديث عن الباقيات الصالحات , فهنا يصله بوصف اليوم الذي يكون للباقيات الصالحات وزن فيه
وحساب , يعرضه في مشهد من مشاهد القيامة . ويتبعه في السياق بإشارة إلى ما كان من
إبليس يوم أمر بالسجود لآدم ففسق عن أمر ربه للتعجيب من أبناء آدم الذين يتخذون
الشياطين أولياء , وقد علموا أنهم لهم أعداء , وبذلك ينتهون إلى العذاب في يوم
الحساب . ويعرج على الشركاء الذين لا يستجيبون لعبادهم في ذلك اليوم الموعود .
هذا وقد صرف الله في
القرآن الأمثال للناس ليقوا أنفسهم شر ذلك اليوم , ولكنهم لم يؤمنوا , وطلبوا أن يحل بهم
العذاب أو أن يأتيهم الهلاك الذي نزل بالأمم قبلهم . وجادلوا بالباطل ليغلبوا به الحق ,
واستهزأوا بآيات الله ورسله . ولولا رحمة الله لعجل لهم العذاب . .
هذا الشوط من مشاهد
القيامة , ومن مصارع المكذبين يرتبط بمحور السورة الأصيل في تصحيح العقيدة , وبيان ما ينتظر
المكذبين , لعلهم يهتدون .
الدرس الأول:47 - 49 تصوير
مشاهد من يوم القيامة والحساب
(ويوم نسير الجبال
وترى الأرض بارزة , وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا . وعرضوا على ربك صفا .لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ,
بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا . ووضع الكتاب
فترى المجرمين مشفقين مما فيه ; ويقولون:يا ويلتنا ! مال
هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ? ووجدوا ما عملوا حاضرا , ولا يظلم
ربك أحدا).
إنه مشهد تشترك فيه
الطبيعة ويرتسم الهول فيه على صفحاتها وعلى صفحات القلوب . مشهد تتحرك فيه الجبال الراسخة فتسير
, فكيف بالقلوب , وتتبدى فيه الأرض عارية , وتبرز فيه صفحتها مكشوفة لا نجاد فيها
ولا وهاد , ولا جبال فيها ولا وديان . وكذلك تتكشف خبايا القلوب فلا تخفى منها
خافية .
ومن هذه الأرض المستوية
المكشوفة التي لا تخبى ء شيئا , ولا تخفي أحدا: (وحشرناهم
فلم نغادر منهم أحدا).
ومن الحشر الجامع الذي
لا يخلف أحدا إلى العرض الشامل: (وعرضوا على ربك صفا). . هذه الخلائق التي لا يحصى لها عدد ,
منذ أن قامت البشرية على ظهر هذه الأرض إلى نهاية الحياة الدنيا . . هذه الخلائق
كلها محشورة مجموعة مصفوفة , لم يتخلف منها أحد , فالأرض مكشوفة مستوية لا تخفي
أحدا .
وهنا يتحول السياق من
الوصف إلى الخطاب . فكأنما المشهد حاضر اللحظة , شاخص نراه ونسمع ما يدور فيه . ونرى الخزي على وجوه
القوم الذين كذبوا بذلك الموقف وأنكروه: لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة .
بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا .
هذا الالتفات من الوصف
إلى الخطاب يحيي المشهد ويجسمه . كأنما هو حاضر اللحظة , لا مستقبل في ضمير الغيب في يوم
الحساب .
وإننا لنكاد نلمح الخزي
على الوجوه , والذل في الملامح . وصوت الجلالة الرهيب يجبه هؤلاء المجرمين بالتأنيب: (لقد
جئتمونا كما خلقناكم أول مرة)وكنتم تزعمون أن ذلك لن يكون: 1 زعمتم ألن نجعل لكم
موعدا !
وبعد إحياء المشهد
واستحضاره بهذا الالتفات من الوصف إلى الخطاب يعود إلى وصف ما هناك:
(ووضع الكتاب فترى
المجرمين مشفقين مما فيه)فهذا هو سجل أعمالهم يوضع أمامهم , وهم يتملونه ويراجعونه , فإذا هو
شامل دقيق . وهم خائفون من العاقبة ضيقو الصدور بهذا الكتاب الذي لا يترك شاردة ولا
واردة , ولا تند عنه كبيرة ولا صغيرة: 18: لون:يا ويلتنا . ما لهذا الكتاب لا
يغادر صغيرة ولا كبيرة , إلا أحصاها ? وهي قولة المحسور المغيظ الخائف المتوقع لأسوأ
العواقب , وقد ضبط مكشوفا لا يملك تفلتا ولا هربا , ولا مغالطة ولا مداورة: (ووجدوا
ما عملوا حاضرا)ولاقوا جزاء عادلا: (ولا يظلم ربك أحدا). .
الدرس الثاني:5 - 53 كفر
إبليس وخسارة أتباعه وخزيهم يوم القيامة
هؤلاء المجرمون الذين
وقفوا ذلك الموقف كانوا يعرفون أن الشيطان عدولهم , ولكنهم تولوه فقادهم إلى ذلك الموقف العصيب .
فما أعجب أن يتولوا إبليس وذريته وهم لهم عدو منذ ما كان بين آدم وإبليس:
(وإذ قلنا
للملائكة:اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . أفتتخذونه وذريته
أولياء من دوني , وهم لكم عدو , بئس للظالمين بدلا).
وهذه الإشارة إلى تلك
القصة القديمة تجيء هنا للتعجيب من أبناء آدم الذين يتخذون ذرية إبليس أولياء من دون الله بعد
ذلك العداء القديم .
مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا
شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً (52) وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا
أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا
عَنْهَا مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ
مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَمَا
مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ
إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ
قُبُلاً (55)
واتخاذ إبليس وذريته أولياء يتمثل في
تلبية دواعي المعصية والتولي عن دواعي الطاعة .
ولماذا يتولون أعداءهم
هؤلاء , وليس لديهم علم ولا لهم قوة . فالله لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم
فيطلعهم على غيبه . والله لا يتخذهم عضدا فتكون لهم قوة:
ما أشهدتم خلق السماوات
والأرض ولا خلق أنفسهم , وما كنت متخذ المضلين عضدا . .
إنما هو خلق من خلق الله
, لا يعلمون غيبه , ولا يستعين بهم سبحانه . .
(وما كنت متخذ
المضلين عضدا)فهل يتخذ الله سبحانه غير المضلين عضدا ?
وتعالى الله الغني عن
العالمين , ذو القوة المتين . . إنما هو تعبير فيه مجاراة لأوهام المشركين لتتبعها واستئصالها .
فالذين يتولون الشيطان ويشركون به مع الله , إنما يسلكون هذا المسلك توهما منهم
أن للشيطان علما خفيا , وقوة خارقة . والشيطان مضل , والله يكره الضلال والمضلين .
فلو أنه - على سبيل الفرض والجدل - كان متخذا له مساعدين , لما اختارهم من
المضلين !
وهذا هو الظل الذي يراد
أن يلقيه التعبير . .
ثم يعرض مشهد من مشاهد
القيامة يكشف عن مصير الشركاء ومصير المجرمين:
(ويوم يقول:نادوا
شركائي الذين زعمتم . فدعوهم فلم يستجيبوا لهم . وجعلنا بينهم موبقا . ورأى
المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها , ولم يجدوا عنها مصرفا). .
إنهم في الموقف الذي لا
تجدي فيه دعوى بلا برهان . والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا , ويأمرهم أن
يدعوهم ليحضروا . . وإنهم لفي ذهول ينسون أنها الآخرة , فينادون . لكن الشركاء لا
يجيبون !
وهم بعض خلق الله الذين
لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا في الموقف المرهوب . وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم
مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء . . إنها النار (وجعلنا بينهم موبقا).
ويتطلع المجرمون , فتمتليء
نفوسهم بالخوف والهلع , وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها . وما أشق توقع العذاب وهو
حاضر , وقد أيقنوا أن لا نجاة منها ولا محيص:
(ورأى المجرمون النار
فظنوا أنهم مواقعوها , ولم يجدوا عنها مصرفا)
الدرس الثالث:54 - 59
إرسال الرسل وسبب كفر الكفار وإمهال الله لهم ثم أخذهم
ولقد كان لهم عنها مصرف ,
لو أنهم صرفوا قلوبهم من قبل للقرآن , ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به , وقد ضرب الله لهم
فيه الأمثال ونوعها لتشمل جميع الأحوال:
(ولقد صرفنا في هذا
القرآن للناس من كل مثل , وكان الإنسان أكثر شيء جدلا). .
ويعبر السياق عن الإنسان
في هذا المقام بأنه(شيء)وأنه أكثر شيء جدلا . ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه , ويقلل من
غروره , ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة . وأنه أكثر هذه الخلائق جدلا .
بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل .
ثم يعرض الشبهة التي
تعلق بها من لم يؤمنوا - وهم كثرة الناس - على مدار الزمان والرسالات:
(وما منع الناس أن
يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين , أو يأتيهم العذاب قبلا). .
فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي
للاهتداء . ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم
0 التعليقات :
إرسال تعليق