مبدواً بقوله تعالى: (أما
السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . . .)
بسم الله الرحمن الرحيم
بقية سورة الكهف و سورتا
مريم و طه
الجزء السادس عشر
الوحدة الخامسة:83 - 110
الموضوع:قصة ذي القرنين وتعقيبات على موضوع السورة
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي
فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98)
مقدمة الوحدة
هذا الدرس الأخير في
سورة الكهف قوامه قصة ذي القرنين , ورحلاته الثلاث إلى الشرق وإلى الغرب وإلى الوسط , وبناؤه
للسد في وجه يأجوج ومأجوج .
والسياق يحكي عن ذي القرنين
قوله بعد بناء السد:(قال:هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء , وكان وعد ربي
حقا). . ثم يعقب الوعد الحق , بالنفخ في الصور ومشهد من مشاهد القيامة . . ثم تختم
السورة بثلاثة مقاطع , يبدأ كل مقطع منها بقوله:(قل).
وهذه المقاطع تلخص
موضوعات السورة الرئيسية واتجاهاتها العامة . وكأنما هي الإيقاعات الأخيرة القوية في اللحن
المتناسق . .
الدرس الأول:83 الإخبار
الرباني عن ذي القرنين
وتبدأ قصة ذي القرنين على
النحو التالي:
(ويسألونك عن ذي
القرنين . قل:سأتلو عليكم منه ذكرا). .
وقد ذكر محمد بن إسحاق
سبب نزول هذه السورة فقال:"حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة , عن عكرمة
, عن ابن عباس قال "بعثت قريش النضر بن الحارث , وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار
يهود بالمدينة , فقالوا لهم:سلوهم عن محمد , وصفوا لهم صفته , وأخبروهم بقوله ,
فإنهم أهل الكتاب الأول , وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . . فخرجا حتى
أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عنرسول الله [ ص ] ووصفوا لهم أمره
وبعض قوله , وقالا:إنكم أهل التوراة , وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا
. قال:فقالوا لهم:سلوه عن ثلاث نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل , وإلا فرجل
متقول تروا فيه رأيكم:سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول . ما كان من أمرهم ?
فإنهم كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها . ما كان نبؤه ?
وسلوه عن الروح ما هو ? فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه , وإن لم يخبركم فإنه
رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ,
فقالا:يا معشر قريش , قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد . قد أمرنا أحبار يهود أن
نسأله عن أمور . . . فأخبروهم بها . فجاءوا رسول الله [ ص ] فقالوا:يا محمد
أخبرنا . . فسألوه عما أمرهم به . فقال لهم رسول الله [ ص ] " أخبركم غدا عما
سألتم عنه " - ولم يستثن - فانصرفوا عنه . ومكث رسول الله [ ص ] خمس عشرة ليلة لا يحدث الله
له في ذلك وحيا , ولا يأتيه جبريل عليه السلام , حتى أرجف أهل مكة ;
وقالوا:وعدنا محمد غدا , واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه
. وحتى أحزن رسول الله [ ص ] مكث الوحي عنه ; وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم
جاءه جبرائيل - عليه السلام - من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف , فيها معاتبته
إياه على حزنه عليهم , وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية , والرجل الطواف , وقول الله عز
وجل: (ويسألونك عن الروح . . .)الآية .
هذه رواية . . وقد وردت
عن ابن عباس - رضي الله عنه - رواية أخرى في سبب نزول آية الروح خاصة , ذكرها العوفي .
وذلك أن اليهود قالوا للنبي [ ص ]:أخبرنا عن الروح . وكيف
تعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله ? ولم يكن نزل عليه شيء . فلم يحر إليهم
شيئا . فأتاه جبريل فقال له: (قل:الروح من أمر ربي , وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
. إلى آخر الرواية .
ولتعدد الروايات في أسباب
النزول , نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن . ومن هذا النص نعلم أنه كان هناك
سؤال عن ذي القرنين . لا ندري - على وجه التحقيق - من الذي سأله . والمعرفة به لا
تزيد شيئا في دلالة القصة . فلنواجه النص بلا زيادة .
إن النص لا يذكر شيئا
عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه . وهذه هي السمة المطردة في قصص القرآن .
فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود . إنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة . والعبرة
تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان .
والتاريخ المدون يعرف ملكا
اسمه الاسكندر ذو القرنين . ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن .
فالإسكندر الإغريقي كان وثنيا . وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله موحد معتقد
بالبعث والآخرة .
ويقول أبو الريحان
البيروني في المنجم في كتاب:"الآثار الباقية عن القرون الخالية " إن ذا القرنين
المذكور في القرآن كان من حمير مستدلا باسمه . فملوك حمير كانوا يلقبون بذي . كذي نواس وذي يزن
. وكان اسمه أبو بكر بن افريقش . وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط
, فمر بتونس ومراكش وغيرهما ; وبنى مدينة إفريقية فسميت القارة كلها باسمه . وسمي
ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس .
وقد يكون هذا القول صحيحا
. ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه . ذلك أنه لا يمكن البحث في التاريخ المدون عن ذي
القرنين الذي يقص القرآن طرفا من سيرته , شأنه شأن كثير من القصص الوارد في القرآن كقصص
قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم . فالتاريخ مولود حديث العهد جدا بالقياس إلى عمر
البشرية . وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون أحداث كثيرة لا يعرف عنها شيئا . فليس
هو الذي يستفتي فيها !
ولو قد سلمت التوراة من
التحريف والزيادات لكانت مرجعا يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث . ولكن التوراة أحيطت بالأساطير
التي لا شك في كونها أساطير . وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على
الأصل الموحى به من الله . فلم تعد التوراة مصدرا مستيقنا لما ورد فيها من القصص
التاريخي .
وإذن فلم يبق إلا القرآن
. الذي حفظ من التحريف والتبديل . هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي .
ومن البديهي أنه لا تجوز
محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين:
أولهما:أن التاريخ مولود
حديث العهد , فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية , لم يعلم عنها شيئا . والقرآن يروي
بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها !
وثانيهما:أن التاريخ - وإن
وعى بعض هذه الأحداث - هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من
القصور والخطأ والتحريف . ونحن نشهد في زماننا هذا - الذي تيسرت فيه أسباب الاتصال
ووسائل الفحص - أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى , وينظر إليه
من زوايا مختلفة , ويفسر تفسيرات متناقضة . ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ ,
مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق !
فمجرد الكلام عن استفتاء
التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص , كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي
ارتضاها البشر , قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل . وهو
كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن , ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء . إنما
هو مراء !!!
لقد سأل سائلون عن ذي
القرنين . سألوا الرسول [ ص ] فأوحى إليه الله بما هو وارد هنا من سيرته . وليس أمامنا مصدر
آخر غير القرآن في هذه السيرة . فنحن لا نملك التوسع فيها بغير علم . وقد وردت في
التفاسير أقوال كثيرة , ولكنها لا تعتمد على يقين . وينبغي أن نؤخذ بحذر , لما فيها
من إسرائيليات وأساطير .
وقد سجل السياق القرآني
لذي القرنين ثلاث رحلات:واحدة إلى المغرب , وواحدة إلى المشرق , وواحدة إلى مكان بين السدين . .
فلنتابع السياق في هذه الرحلات الثلاث .
الدرس الثاني:84 - 88
فتوحات ذي القرنين جهة مغرب الشمس
يبدأ الحديث عن ذي
القرنين بشيء عنه:
(إنا مكنا له في
الأرض وآتيناه من كل شيء سببا). .
لقد مكن الله له في
الأرض , فأعطاه سلطانا وطيد الدعائم ; ويسر له أسباب الحكم والفتح , وأسباب البناء والعمران ,
وأسباب السلطان والمتاع . . وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا فيه في هذه الحياة .
(فأتبع سببا). ومضى
في وجه مما هو ميسر له , وسلك طريقه إلى الغرب .
(حتى إذا بلغ مغرب
الشمس وجدها تغرب في عين حمئة , ووجد عندها قوما . قلنا:يا ذا القرنين إما
أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا . قال:أما من ظلم فسوف نعذبه , ثم يرد إلى ربه
فيعذبه عذابا نكرا . وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى , وسنقول له من أمرنا
يسرا).
ومغرب الشمس هو المكان
الذي يرى الرائي أن الشمس تغرب عنده وراء الأفق . وهو يختلف بالنسبة للمواضع . فبعض المواضع
يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف جبل . وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الماء
كما في المحيطات الواسعة والبحار . وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الرمال إذا
كان في صحراء مكشوفة على مد البصر . .
والظاهر من النص أن ذا
القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطيء المحيط الأطلسي - وكان يسمى بحر الظلمات ويظن أن
اليابسة تنتهي عنده - فرأى الشمس تغرب فيه .
والأرجح أنه كان عند مصب أحد
الأنهار . حيث تكثر الأعشاب ويتجمع حولها طين لزج هو الحمأ . وتوجد البرك وكأنها
عيون الماء . . فرأى الشمس تغرب هناك و (وجدها تغرب في عين حمئة). . ولكن يتعذر علينا
تحديد المكان , لأن النص لا يحدده . وليس لنا مصدر آخر موثوق به نعتمد عليه في
تحديده . وكل قول غير هذا ليس مأمونا لأنه لا يستند إلى مصدر صحيح .
عند هذه الحمئة وجد ذو
القرنين قوما: (قلنا:يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا).
كيف قال الله هذا القول
لذي القرنين ? أكان ذلك وحيا إليه أم إنه حكاية حال . إذ سلطه الله على القوم , وترك له
التصرف في أمرهم فكأنما قيل له:دونك وإياهم . فإما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ?
كلا القولين ممكن , ولا مانع من فهم النص على هذا الوجه أو ذاك . والمهم أن ذا القرنين
أعلن دستوره في معاملة البلاد المفتوحة , التي دان لها أهلها وسلطه الله عليها .
(قال:أما من ظلم فسوف
نعذبه , ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا . وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى , وسنقول
له من أمرنا يسرا).
أعلن أن للمعتدين
الظالمين عذابه الدنيوي وعقابه , وأنهم بعد ذلك يردون إلى ربهم فيعذبهم عذابا
فظيعا(نكرا)لا نظير له فيما يعرفه البشر . أما المؤمنون الصالحون فلهم الجزاء
الحسن , والمعاملة الطيبة , والتكريم والمعونة والتيسير .
وهذا هو دستور الحكم
الصالح . فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم . والمعتدي
الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء . . وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه
جزاء حسنا , ومكانا كريما وعونا وتيسيرا ; ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة
. . عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج . أما حين يضطرب ميزان الحكم فإذا
المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم مقدمون في الدولة ; وإذا العاملون
الصالحون منبوذون أو محاربون . فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة
إفساد . ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد .
الدرس الثالث:89 - 91
فتوحات ذي القرنين جهة مشرق الشمس
ثم عاد ذو القرنين من
رحلة المغرب إلى رحلة المشرق , ممكنا له في الأرض , ميسرة له الأسباب:
(ثم أتبع سببا . حتى
إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا . كذلك وقد أحطنا بما لديه
خبرا).
وما قيل عن مغرب الشمس
يقال عن مطلعها . فالمقصود هو مطلعها من الأفق الشرقي في عين الرائي . والقرآن لم يحدد
المكان . ولكنه وصف طبيعته وحال القوم الذي وجدهم ذو القرنين هناك:(حتى إذا بلغ مطلع الشمس
وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا). . أي إنها أرض مكشوفة , لا تحجبها
عن الشمس مرتفعات ولا أشجار . فالشمس تطلع على القوم فيها حين تطلع بلا ساتر .
. وهذا الوصف ينطبق على الصحارى والسهول الواسعة . فهو لا يحدد مكانا بعينه . وكل
ما نرجحه أن هذا المكان كان في أقصى الشرق حيث يجد الرائي أن الشمس تطلع على
هذه الأرض المستوية المكشوفة , وقد يكون ذلك على شاطيء إفريقية الشرقي . وهناك احتمال
لأن يكون المقصود بقوله: (لم نجعل لهم من دونها سترا)أنهم قوم عراة الأجسام لم
يجعل لهم سترا من الشمس . .
ولقد أعلن ذو القرنين من
قبل دستوره في الحكم , فلم يتكرر بيانه هنا , ولا تصرفه في رحلة المشرق لأنه معروف من قبل
, وقد علم الله كل ما لديه من افكار واتجاهات .
ونقف هنا وقفة قصيرة أمام
ظاهرة التناسق الفني في العرض . . فإن المشهد الذي يعرضه السياق هو مشهد مكشوف في
الطبيعة:الشمس ساطعة لا يسترها عن القوم ساتر . وكذلك ضمير ذي القرنين ونواياه كلها
مكشوفة لعلم الله . . وكذلك يتناسق المشهد في الطبيعة وفي ذي القرنين على طريقة
التنسيق القرآنية الدقيقة .
الدرس الرابع:92 - 98 ذو
القرنين وسد يأجوج ومأجوج
ثم أتبع سببا . حتى إذا
بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا . قالوا:يا ذا القرنين إن يأجوج
ومأجوج مفسدون في الأرض , فهل نجعل لك خرجا على أن نجعل بيننا وبينهم سدا ?
قال:ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما . آتوني زبر الحديد . حتى
إذا ساوى بين الصدفين قال:انفخوا . حتى إذا جعله نارا قال:آتوني أفرغ عليه قطرا
. فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا . قال:هذا
رحمة من ربي , فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء , وكان وعد ربي حقا .
ونحن لا نستطيع أن نجزم
بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين (بين السدين)ولا ما هما هذان السدان . كل ما
يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين , أو بين سدين صناعيين . تفصلهما
فجوة أو ممر . فوجد هنالك قوما متخلفين: (لا
يكادون يفقهون قولا).
وعندما وجدوه فاتحا قويا ,
وتوسموا فيه القدرة والصلاح . . عرضوا عليه أن يقيم لهم سدا في وجه يأجوج ومأجوج الذين
يهاجمونهم من وراء الحاجزين , ويغيرون عليهم من ذلك الممر , فيعيثون في أرضهم فسادا
; ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم . . وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من
بينهم .
وتبعا للمنهج الصالح الذي
أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من
المال ; وتطوع بإقامة السد ; ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين
الطبيعيين ; فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية:
(فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما . آتوني زبر الحديد). . فجمعوا له قطع
الحديد , وكومها في الفتحة بين الحاجزين , فأصبحاكأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما
. (حتى إذا ساوى بين الصدفين)وأصبح الركام
بمساواة القمتين (قال:انفخوا)على النار لتسخين الحديد (حتى إذا جعله نارا)كله لشدة
توهجه واحمراره (قال:آتوني أفرغ عليه قطرا)أي نحاسا مذابا يتخلل الحديد , ويختلط به
فيزيده صلابة .
وقد استخدمت هذه الطريقة
حديثا في تقوية الحديد ; فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته . وكان
هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين , وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري
الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله .
بذلك التحم الحاجزان ,
وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج (فما اسطاعوا أن يظهروه)ويتسوروه (وما استطاعوا له
نقبا)فينفذوا منه . وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم الضعاف المتخلفين . فأمنوا
واطمأنوا .
ونظر ذو القرنين إلى
العمل الضخم الذي قام به , فلم يأخذه البطر والغرور , ولم تسكره نشوة القوة والعلم . ولكنه ذكر
الله فشكره . ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه . وتبرأ من قوته إلى قوة الله ,
وفوض إليه الأمر , وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم
القيامة , فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا .
(قال:هذا رحمة من ربي
, فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء . وكان وعد ربي حقا). .
وبذلك تنتهي هذه الحلقة من
سيرة ذي القرنين . النموذج الطيب للحاكم الصالح , يمكنه الله في الأرض , وييسر له
الأسباب ; فيجتاح الأرض شرقا وغربا ; ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر , ولا يطغى ولا يتبطر
, ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي , واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان ,
ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ; ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه .
. إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به , ويساعد المتخلفين , ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل ;
ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح , ودفع العدوان وإحقاق
الحق . ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله , ولا ينسى
وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته , وأنه راجع إلى الله .
وبعد فمن يأجوج ومأجوج ?
وأين هم الآن ? وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون !
كل هذه أسئلة تصعب
الإجابة عليها على وجه التحقيق , فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن , وفي بعض الأثر
الصحيح .
والقرآن يذكر في هذا الموضع
ما حكاه من قول ذي القرنين: (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء , وكان وعد ربي حقا).
وهذا النص لا يحدد زمانا
. ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار , وانساحوا في الأرض
, ودمروا الممالك تدميرا .
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ
فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ
عَرْضاً (100)
الَّذِينَ
كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
وفي موضع آخر في سورة الأنبياء:
(حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق . .
.).
وهذا النص كذلك لا يحدد
زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن
الرسول [ ص ] فجاء في القرآن:(اقتربت الساعة وانشق القمر)والزمان في الحساب الإلهي
غيره في حساب البشر . فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو
القرون , يراها البشر طويلة مديدة , وهي عند الله ومضة قصيرة .
وإذن فمن الجائز أن يكون
السد قد فتح في الفترة ما بين: (اقتربت الساعة)ويومنا هذا . وتكون غارات المغول والتتار
التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج .
وهناك حديث صحيح رواه
الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة , عن زينب بنت أبي سلمة , عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي
سفيان , عن أمها حبيبة , عن زينب بنت جحش - زوج النبي [ ص ] - قالت:استيقظ
الرسول [ ص ] من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول:" ويل للعرب من شر قد اقترب . فتح اليوم من
ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وحلق [ بإصبعيه السبابة والإبهام ] . قلت:يا رسول الله
أنهلك وفينا الصالحون ? قال " نعم إذا كثر الخبيث " .
وقد كانت هذه الرؤيا منذ
أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن . وقد وقعت غارات التتار بعدها , ودمرت ملك العرب بتدمير
الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين . وقد يكون
هذا تعبير رؤيا الرسول [ ص ] وعلم ذلك عند الله . وكل ما نقوله ترجيح لا يقين .
الدرس الخامس:99 - 102
مشهد القيامة وتهديد الكفار بالعذاب
ثم نعود إلى سياق
السورة . فنجده يعقب على ذكر ذي القرنين للوعد الحق بمشهد من مشاهد القيامة .
وتركنا بعضهم يومئذ يموج في
بعض , ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ; وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا , الذين كانت
أعينهم في غطاء عن ذكري , وكان لا يستطيعون سمعا .
وهو مشهد يرسم حركة
الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض . ومن كل جيل وزمان وعصر , مبعوثين
منشرين . يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه , تتدافع جموعهم تدافع الموج
وتختلط اختلاط الموج . . ثم إذا نفخة التجمع والنظام: ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا
فإذا هم في الصف في نظام !
ثم إذا الكافرون الذين
أعرضوا عن ذكر الله حتى لكأن على عيونهم غطاء , ولكأن في أسماعهم صمما . . إذا بهؤلاء تعرض عليهم
جهنم فلا يعرضون عنها كما يعرضون عن ذكر الله . فما يستطيعون اليوم إعراضا .
لقد نزع الغطاء عن عيونهم نزعا فرأوا عاقبة الإعراض والعمى جزاء وفاقا !
والتعبير ينسق بين الإعراض
والعرض متقابلين في المشهد , متقابلين في الحركة على طريقة التناسق الفني في القرآن .
ويعقب على هذا التقابل بالتهكم
اللاذع والسخرية المريرة:
0 التعليقات :
إرسال تعليق