الحادية والستون: أن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم
يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه، وكلامه،
وإقدامه، وكتابه أمرًا عجيبًا؛ فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في
جمعه وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا.
وقد علَّم النبي r ابنته فاطمة وعليًا – رضي الله تعالى عنهما – أن يسبحا
كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا
وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها
ذلك، وقال: «إنه خير لكما من خادم»([1]).
فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم.
الثانية والستون: أن عُمَّال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذاكرون هم
أسبقهم في ذلك المضمار، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم، فإذا انجلى
الغبار وانكشف رآهم الناس وقد حازوا قصب السبق.
الثالثة والستون: أن الذكر سبب لتصديق الرب- عز وجل – عبده، فإنه أخبر عن
الله – تعالى – بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه، ومن
صدقه الله – تعالى – لم يحشر مع الكاذبين، ورُجي له أن يحشر مع الصادقين.
روى أبو إسحاق عن الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري –
رضي الله عنهما – أنهما شهدا على رسول الله r أنه قال: «إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله
أكبر».
قال: «يقول الله – تبارك وتعالى: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، وأنا أكبر.
وإذا قال: لا إله إلا الله وحده.
قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وحدي.
وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لا شريك لي.
وإذا قال: لا إله إلا الله، له الملك، وله الحمد.
قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، لي الملك، ولي الحمد.
وإذا قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي.
قال أبو إسحاق:
ثم قال الأغر شيئًا لم أفهمه، قلت لأبي جعفر: ما قال؟ قال: «من رزقهن
عند موته لم تمسه النار»([2]).
الرابعة والستون: أن دور الجنة تبنى بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر
أمسكت الملائكة عن البناء.
وكما أن بناءها بالذكر، فغراس بساتينها بالذكر؛ كما تقدم في حديث النبي r عن إبراهيم الخليل – عليه السلام: «أن الجنة طيبة
التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله
إلا الله، والله أكبر»([3]). فالذكر غراسها وبناؤها.
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول
الله r قال: «أكثروا من غراس الجنة».
قالوا: يا رسول الله! وما غراسها؟
قال: «ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله»([4]).
الخامسة والستون: أن الذكر سد بين العبد وبين جهنم، فإذا كانت له إلى جهنم
طريق من عمل من الأعمال كان الذكر سدًا في تلك الطريق، فإذا كان ذكرًا دائمًا
كاملًا كان سدًا محكمًا لا منفذ فيه، وإلا فبحسبه.
السادسة والستون: أن الملائكة تستغفر للذاكر؛ كما تستغفر للتائب.
السابعة والستون: أن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله – عز وجل
– عليها.
الثامنة والستون: أن كثرة ذكر الله – عز وجل – أمان من النفاق؛ فإن
المنافقين قليلوا الذكر لله – عز وجل.
قال الله – عز وجل – في المنافقين: }وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا{ [النساء: 142].
وقال كعب: من أكثر ذكر الله – عز وجل – برئ من النفاق، ولهذا – والله أعلم –
ختم الله – تعالى – سورة المنافقين بقوله – تعالى: }يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{ [المنافقون:
9].
فإن في ذلك تحذيرًا من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله – عز وجل –
فوقعوا في النفاق.
وسئل بعض الصحابة – رضي الله عنهم – عن الخوارج: منافقون هم؟
قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً.
فهذا من علامة النفاق: قلة ذكر الله – عز وجل ، وكثرة ذكره أمان من النفاق،
والله – عز وجل – أكرم من أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوب غفلت عن
ذكر الله – عز وجل.
التاسعة والستون: أن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء؛ فلو لم يكن
للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر، والنعيم الذي يحصل لقلبه، لكفى به،
ولهذا سميت مجالس الذكر رياض الجنة.
قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله – عز وجل ؛ فليس شيء
من الأعمال أخف مؤونة منه، ولا أعظم لذة، ولا أكثر فرحة وابتهاجًا للقلب.
السبعون: أنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا، ونورًا في الآخرة؛ فالذاكرون أنضر
الناس وجوهًا في الدنيا، وأنورهم في الآخرة.
الحادية والسبعون: أن في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والحضر، والسفر،
والبقاع، تكثيرًا لشهود العبد يوم القيامة؛ فإن البقعة، والدار والجبل، والأرض،
تشهد للذاكر يوم القيامة.
قال – تعالى - }إِذَا
زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا *
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ
رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا{ [الزلزلة: 1-5].
فروى الترمذي في «جامعه» من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قرأ رسول
الله r هذه الآية: }يَوْمَئِذٍ
تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{.
قال: «أتدرون ما أخبارها؟».
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم
كذا وكذا».
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ([5]).
والذاكر لله عز وجل في سائر البقاع مكثر شهوده، ولعلهم أو أكثرهم أن يقبلوه
يوم القيامة، يوم قيام الأشهاد، وأداء الشهادات، فيفرح ويغتبط بشهادتهم.
الثانية والسبعون: أن في الاشتغال بالذكر اشتغالاً عن الكلام الباطل من
الغيبة، والنميمة، واللغو، ومدح الناس، وذمهم، وغير ذلك، فإن اللسان لا يسكت البتة؛
فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغٍ، ولا بد من أحدهما؛ فهي النفس: إن لم تشغلها بالحق
شغلتك بالباطل، وهو القلب: إن لم تسكنه محبة الله – عز وجل - سكنه محبة المخلوقين
ولا بد، وهو اللسان: إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد، فاختر
لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين.
الثالثة والسبعون: وهي التي بدأنا بذكرها، وأشرنا إليها إشارة، فنذكرها
هاهنا مبسوطة لعظيم الفائدة بها، وحاجة كل أحد – بل ضرورته – إليها؛ وهي أن
الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه، فما ظنك برجل قد احتوشته أعداؤه المحنقون
عليه غيظًا، وأحاطوا به، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشر والأذى؟! لا سبيل
إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله – عز وجل.
فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري – الذي شرحناه في هذه الرسالة – وقوله
فيه: «وآمركم بذكر الله – عز وجل، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو، فانطلقوا
في طلبه سراعًا، وانطلق حتى أتى حصنًا حصينًا، فأحرز نفسه فيه».
فكذلك الشيطان؛ لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله – عز وجل.
وفي الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله r: «من قال – يعني إذا خرج من بيته : بسم الله، توكلت
على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. يقال له: كفيت، وهديت، ووقيت. وتنحى عنه
الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟!» رواه أبو داود،
والنسائي، والترمذي وقال: حديث حسن ([6]).
وقد تقدم قوله r: «من قال في يوم مئة مرة: لا إله إلا وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له حرزًا من الشيطان حتى يمسي»([7]).
وفي «صحيح البخاري» عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: ولاني رسول الله r زكاة رمضان أن احتفظ بها، فأتاني آت، فجعل يحثو الطعام،
فأخذته، فقال: دعني؛ فإني لا أعود ... فذكر الحديث وقال: فقال له في الثالثة:
أعلمك كلمات ينفعك الله بهن: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى
آخرها، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخلى سبيله،
فأصبح، فأخبر النبي r بقوله، فقال: «صدقك، وهو كذوب»([8]).
وفي «الصحيحين» من حديث سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس قال: قال
رسول الله r: «أما إن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم
جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فيولد بينهما ولد، لا يضره شيطان أبدًا»([9]).
وقد ثبت في الصحيح أن الشيطان يهرب من الأذان.
قال سهيل بن أبي صالح: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام – أو صاحب –
لنا، فنادى مناد من حائط باسمه، فأشرف الذي معي على الحائط، فلم ير شيئًا، فذكرت
ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتًا فناد
بالصلاة؛ فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله r أنه قال: «إنَّ الشيطان إذا نُودي بالصلاة ولَّى وله
حُصاصٌ».
وفي رواية: «إذا سمع النداء ولي وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين...»
الحديث ([10]).
فهذا بعض ما يتعلق بقوله r لذلك العبد: يحرز نفسه من الشيطان بذكر الله – تعالى.
الرابعة والسبعون: الذكر نوعان:
أحدهما: ذكر أسماء الرب – تبارك وتعالى – وصفاته، والثناء عليه بهما،
وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به – تبارك وتعالى، وهذا أيضًا نوعان:
أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في
الأحاديث، نحو: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».
و «سبحان الله وبحمده».
و «لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء
قدير».
ونحو ذلك؛ فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه؛ نحو: «سبحان الله عدد
خلقه»؛ فهذا أفضل من مجرد «سبحان الله»، وقولك: «الحمد لله عدد ما
خلق في السماء، وعدد ما خلق في الأرض، وعدد ما بينهما، وعدد ما هو خالق» أفضل
من مجرد قولك: «الحمد لله».
وهذا في حديث جويرية أن النبي r قال لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو
وزنت بما قلت منذ اليوم؛ لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه،
سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته»([11]).
الخامسة والسبعون: الخبر عن الرب – تعالى – بأحكام أسمائه وصفاته ([12])، نحو قولك: الله – عز وجل – يسمع أصوات عباده، ويرى
حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو
على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد راحلته([13])، ونحو ذلك.
وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه
رسول الله r من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل.
وهذا النوع أيضًا ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد.
فالحمد لله: الإخبار عنه بصفات كماله – سبحانه وتعالى، مع محبته والرضى به،
فلا يكون المحب الساكت حامدًا، ولا المثنى بلا محبة حامدًا حتى تجتمع له المحبة
والثناء؛ فإن كرر المحامد شيئًا بعد شيء كانت ثناء؛ فإن كان المدح بصفات الجلال
والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًا.
وقد جمع الله – تعالى – لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة؛ فإذا قال
العبد: }الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: }الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ{ قال: أثنى على عبدي، وإذا قال: }مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ{ قال: مجدني عبدي ([14]).
السادسة والسبعون: من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه ([15]).
وهو أيضًا نوعان:
أحدهما: ذكره بذلك إخبارًا عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط
كذا، ورضي كذا.
والثاني: ذكره عند أمره، فيبادر إليه، وعند نهيه، فيهرب منه، فذكر أمره
ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر؛
فذِكْرُه أفضل الذكر، وأجله، وأعظمه.
فائدة: فهذا الذكر – من الفقه الأكبر وما دونه – أفضل الذكر إذا صحت فيه
النية.
ومن ذكره – سبحانه وتعالى – ذكر آلاءه، وإنعامه، وإحسانه، وأياديه، ومواقع
فضله على عبيده، وهذا أيضًا من أجل أنواع الذكر.
فهذه خمسة أنواع.
وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر.
وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية.
وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.
فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل
من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء،
ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويَزَع ([16]) عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات،
وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئًا من هذه الآثار، وإن أثمر شيئًا منها فثمرة ضعيفة.
السابعة والسبعون: الذكر أفضل من الدعاء.
الذكر ثناء على الله – عز وجل – بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال
العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟
ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله – تعالى – والثناء
عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته؛ كما في حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله r سمع رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد الله – تعالى - ولم
يصل على النبي r، فقال رسول الله r: «عجل هذا».
ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه – عز وجل –
والثناء عليه، ثم يصلي على النبي r ثم يدعو بعد بما شاء». رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ورواه الحاكم في «صحيحه»([17]).
وهكذا دعاء ذي النون – عليه السلام – قال فيه النبي r: «دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله
كربته: [لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين]».
وفي الترمذي: «دعوة أخي ذي النون، إذا دعا وهو في بطن الحوت [لا إله إلا
أنت سبحانك إني كنت من الظالمين] فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله
له»([18]).
وهكذا عامة الأدعية النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام.
ومنه قوله r في دعاء الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب
العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم»([19]).
ومنه حديث بريدة الأسلمي الذي رواه أهل السنن، وابن حبان في «صحيحه» أن
رسول الله r سمع رجلاً يدعو وهو يقول:
اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
فقال: «والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به
أجاب، وإذا سئل به أعطى»([20]).
وروى أبو داود والنسائي من حديث أنس أنه كان مع النبي r جالسًا، ورجل يصلي ثم دعا: «اللهم إني أسألك بأن لك
الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا
حي، يا قيوم».
فقال النبي r: «لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»([21]).
فأخبر النبي r أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم؛
فكان ذكر الله – عز وجل – والثناء عليه أنجح ما طلب به العبد حوائجه.
وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، وأنه يجعل الدعاء مستجابًا.
فالدعاء الذي يقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء
المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وافتقاره واعترافه كان أبلغ
في الإجابة وأفضل؛ فإنه يكون قد توسل المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض – بل
صرح – بشدة حاجته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه، وأوصاف المسؤول مقتضى
من الله، فاجتمع المقتضى من السائل، والمقتضى من المسؤول في الدعاء، وكان أبلغ
وألطف موقعًا، وأتم معرفة وعبودية.
وأنت ترى في الشاهد – ولله المثل الأعلى – أن الرجل إذا
توسل إلى من يريد معروفه بكرمه وجوده وبره، وذكر حاجته هو، وفقره ومسكنته، كان
أعطف لقلب المسؤول، وأقرب لقضاء حاجته.
فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تنكر، ونحو
ذلك، وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغًا لا صبر معه، ونحو ذلك؛ كان أبلغ في قضاء
حاجته من أن يقول ابتداء: أعطني كذا وكذا.
فإذا عرفت هذا، فتأمل قول موسى r في دعائه: }رَبِّ
إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ{ [القصص: 24].
وقول ذي النون r في دعائه: }لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{ [الأنبياء:
87].
وقول أبينا آدم r: }رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ{ [الأعراف: 23].
وفي «الصحيحين»
أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قال: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في
صلاتي، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا
أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»([22]).
فجمع في
هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله، والتوسل إلى ربه – عز وجل –
بفضله وجوده، وأنه المنفرد بغفران الذنوب، ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معًا،
فهكذا أدب الدعاء وآداب العبودية.
الثامنة
والسبعون: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر
لكل منهما مجردًا.
وقد يعرض
للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل،
وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة
فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك الذكر
عقيب السلام من الصلاة – ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد – أفضل من
الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول أفضل من القراءة، وإن
كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله – تعالى – على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى
فات مقاله فيه، وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة، وفقدت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة
المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو
الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله: أن يتفكر في ذنوبه، فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما
يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
وكذلك أيضًا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر
لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله –
تعالى – وأحدث له تضرعًا وخشوعًا وابتهالاً، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة
هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفسه، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين
فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه.
فللعين موضع وللرجل موضع، وللماء موضع، وللحم موضع، وحفظ المراتب هو من
تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله – تعالى – الموفق.
وهكذا الصابون والأُشنان أنفع للثوب في وقت، والتجمير وماء الورد وكيه أنفع
له في وقت.
وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – يومًا: سئل بعض أهل
العلم: أيما أنفع للعبد؛ التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًا فالبخور
وماء الورد أنفع له، وإن كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له.
فقال لي – رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟!
ومن هذا الباب أن سورة }قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{ تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث، والطلاق،
والخلع، والعدد، ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة
سورة الإخلاص.
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء
العبودية على أتم الوجوه كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛
لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جدًا يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها؛
لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى
فاضلها، فيشتغل به عن مفضولها، وإن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته بالكلية؛ لظنه أن
اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا.
وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل
عمل منها حقه، وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى
منه وأفضل؛ لإمكان تداركه والعود إليه، وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه؛
فالاشتغال به أولى، وهذا كترك القراءة لرد السلام، وتشميت العاطس، وإن كان القرآن
أفضل؛ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل
بالقراءة؛ فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت،
والله – تعالى – الموفق. اهـ.
وتمت هذه الرسالة المباركة
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين
لهم بإحسان آمين.
0 التعليقات :
إرسال تعليق