الحديث و الدعاء و الحكمة

حكم الغناء...

فيقال: أن الزفن هو الوثب بالسلاح.
والحبشة ماذا كانوا يقولون ؟
قد روى الإمام أحمد في " المسند " والسراج في " مسنده " من حديث أنس بن مالك أنهم كانوا يقولون:( محمد عبد صالح، محمدٌ عبد صالح). 

فهذا ما كان يزفن به الحبشة في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إضافة إلى أن الزفن هنا المراد به الوثب بالسلاح والرماح، وهذا جائز لشحذ الهمم لجهادٍ ومكارم الأخلاق، وغير ذلك، في الأعياد ونحوها، إذا خلا من المعازف وآلات اللهو، وكان بالمعاني الحميدة، لثبوت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تقريرًا.
وربما استدل بعضهم بما جاء عن عبد الله بن عمر من وضع إصبعيه في أٌذٌنيه وقوله لمولاه نافع: ( أتسمع شيئًا ؟ فقال: لا ). 

قالوا : إنه أذِنَ لمولاه نافع أن يسمع !
فيقال: إن ذلك سماعًا وليس استماعًا، وفرقٌ بينهما.
إضافة إلى أن أبا داود قال في " سننه ": ( هذا حديث منكر ).
قال ابن رجب رحمة الله : ( تابعه ميمون)، أي : رواه سليمان بن موسى عن نافع عن عبد الله بن عمر، وتابعه ميمون.
وإنكار أبي داود له وجيه، فأين أصحاب نافع من الثقات ؛ كمالك بن أنس، وأيوب بن أبي تميمة السختياني، وابن جريج، وعبيد الله بن عمر، وأيوب بن موسى، والليث، وغيرهم، أين هم عن رواية نافع لذلك الخبر؟!  فلم يروه إلا سليمان وميمون، مما يدل على نكارته. 

وعلى التسليم به، فإن عبد الله بن عمر هو الذي قال عن تلك الجارية:   ( لو ترك الشيطان لترك هذه )، يعني: الجارية لمّا مر بها وهي تغنّي.
وحينما يستدل البعض ببعض المرويات مما جاء عن بعض السلف كعبد الله بن عمر، أو عبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب، أنه كان يستمع الغناء ونحو ذلك، فيقال: ما المراد بالغناء هنا ؟ 

نص القشيري في رسالته: (أن ما روي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب من جملة سماع الأشعار بالألحان).
 ليس المراد بذلك قطعًا - الغناء المحرم والمعازف.
ولذلك يقول ابن رجب في رسالته في " السماع "  (( وقد روي عن بعض السلف من الصحابة وغيرهم ما يوهم عند البعض إباحة الغناء، والمراد بذلك هو الحداء والأشعار)).

وابن قدامة- رحمه الله- قد عنّف على ابن الحنبلي إذ فَهِمَ منه غير ذلك الفهم.
وحينما ظهر الغناء في العصور المتأخرة، وتوسع الناس فيه توسعًا كثيرًا، حتى بلغ به مبلغًا لا يمكن لأحدٍ أن يجيزه، ولديه أُنْسٌ بنصوص الشرع من الكتاب السنة.
ولما كتب أحد الكتاب من مصر كلامًا يستدل [ فيه ] ببعض النصوص من المرويات عن بعض السلف في إباحة الغناء، كعبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي جعفر، وسعد بن إبراهيم وغيرهم من السلف. 

قال أحمد ابن الصديق الغماري: - وهو من علماء المغرب، وإن كان فيه لوثةٌ اعتقاديه-      ( وأما استدلالهم بذلك فعجيب !! فإن إبليس داخلٌ في إجماع العقلاء على تحريم ذلك الغناء ).

وهذا قبل نصف قرن تقريبًا، فكيف بما أحدثه الناس اليوم من غلوٍّ في هذا الباب، استحداث وسائل الطرب وتنوع آلات الموسيقى، والتغني بالشعر الماجن، والكلام المائع الخبث، فتوسعوا فيه توسعًا لا يأنس به أحد من أهل الإيمان الحق.
ولذلك يقال: إن هذا محرّم بلا ريب، وإن من استدل بشيء من ذلك فقد لبّس وخدع، وقد وهّم الناس، ولبّس عليهم دينهم، وخلط ما جاء من النصوص في شيء وجعله في شيء آخر، وهذا هو غاية الظلم.

ومن أعظم الظلم الكذب على الله عز وجل والافتراء عليه، والظلم هو : أن يوضع الشيء في غير موضعه.
يقول الله تعالى في كتابه: ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ)) (الزمر:60 ).

وقال: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ))  (الإسراء:36 ).
ومن ذلك: الكذب على الله، وأن يُجْعَل الحرام حلالًا بحجة ورود بعض الألفاظ العامة الموهمة ونحو ذلك.
ومن تأمل بعض الآراء الفقهية المعاصرة في هذا الباب من إباحة الغناء، وإباحة اللهو المعازف أو الموسيقى ونحو ذلك، علم أن هذه الآراء والأقوال صنيع من لا يفرّق بين الغناء والحداء وبين الشعر على أي وجهٍ كان.

ومن قال بهذا القول فهو داخل في قول ابن قدامة عليه رحمة الله حيث يقول: ( ومن لا يفرق بين الغناء والحداء وبين الشعر على أي وجهٍ كان، وبين السماع والاستماع ؛ فإنه ليس بأهل للفتيا ).

وحينما علّق ابن قدامه على ابن الحنبلي، حينما دخل في هذا الباب والتبس عليه ذلك قال ابن قدامة: ( ويغلب على الظن أن ذلك ليس بخافٍ عليه، وذلك أنه قد استدل للغناء بالحداء وبنصوصه، فإنه لما ضاقت عليه ممادح الغناء مال إلى ما يقاربه وهو الحداء ).
قال : ( فإن الأقرع يفتخر بجمّة ابن عمّه، وابن الحمقاء يذكر خالته إذا عيب بأمه ).
وهذا ابن قدامة الذي قد ذكر عنه بعض المعاصرين محتجًا - أنه قد ذكر الخلاف في مسألة الغناء في كتابه " المغني " فقال: (اختلف أصحابنا في الغناء) وقال عليه: إن الغناء مما يختلف فيه!

وخطاب ابن قدامة لابن الحنبلي هو في العام الذي توفي فيه !!وحكى عنه ابن الحنبلي تكفيره لمستحل الغناء، وقال بعدم صلاح ابن الحنبلي للفتيا وأنه ليس أهلًا لها؛ لأنه قد خلط في هذا، فكيف يأخذ منصف قوله حينما نصّ في " المغني " أن الغناء مما يختلف فيه، فأي غناءٍ أراد ؟!

 إذًا كلامه يفسره كلامه، ويفسره كذلك لغة العرب الواردة في أشعارهم، وفي لسان الشارع: كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما التغني والتطريب بالقراءة فقيل: إن أَول من قرأَ بالأَلحانِ عُبَيد الله بنُ أبي بَكرة، فَوَرِثَه عنه عَبَيدُ الله بنُ عمر، ولذلك يقال قرأْتُ العُمَرِيَّ، وأَخَذ ذلك عنه سعيد العَلاَّفُ الإباضيُّ، كما نص على ذلك ابن منظور رحمه الله.
* وأما المبالغة بالتلحين والتطريب لكلام الله سبحانه وتعالى، فقد ذكر الخلاف فيه ابن رجب في رسالته " السماع ". 

وقال: إن أكثر العلماء على منعه، وذهب بعضهم إلى جوازه، وهو مروي عن أبي حنيفة والإمام الشافعي.

ومنهم من حكى الإجماع كأبي عبيد القاسم ابن سلاّم على المنع.
وأما قراءة القرآن بالتلحين والإطراب، وعلى المقامات مما يسميه أهل الألحان ( مقامات ) فهو محلّ خلاف أيضًا، قد نص على الخلاف ابن القيم وابن رجب الحنبلي وغيرهما.
ويقال: إن التغنّي بالقرآن وتحسين الصوت مقصود شرعًا، ما لم يخرج ذلك عن العادة، حتى وإن أطرب.
والدليل على ذلك: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل على أبي موسى الأشعري فقال: (( لقد أُوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود)).
قال أبو عثمان النهدي رحمه الله  -وهو من كبار التابعين قد أدرك الخلفاء الراشدين الأربعة - : ( قد دخلت دار أبي موسى فما واللهِ سمعت صوت صنج ولا ناي أحسن من صوته ).

وهنا: معلوم أن ما في المزامير وآلات الطرب من الإطراب والمبالغة بالتلذذ وغير ذلك، فإن في قول أبي عثمان النهدي من ذلك أن فيها من الإطراب ما هو ألذّ من ذلك كلّه، وعليه يقال:
أن هذا يحمل على معنيين:
المعنى الأول : أن كلام الله سبحانه وتعالى يطيب القول على أي وجهٍ كان، وأنه ألذّ من ذلك كله.
المعنى الثاني: أن المراد بذلك هو ذات الصوت، وهذا هو الظاهر، وذلك أنه قصد الصوت والتلحين به، وما قصد ذات المعاني، فإن المعاني تسمع عند كلِّ أحد، ولذلك خصّها بدار أبي موسى.

ومعلوم أن ( الصنج ) هو: نوع من أنواع اللهو، وقيل: هو دفتان من النحاس، يضربان ببعض فيصدران صوتًا مطربًا.
و( المزامير ) يدخل فيها آلات اللهو من الطبل و الدف و غيرها، وهي بالعموم جميع ما أطرب حتى وإن كان صوتًا مجردًا.

0 التعليقات :

Copyright @ 2013 مؤسسة الاسلام .