الحديث و الدعاء و الحكمة

فوائد الذكر الطيب.

أحبُّ إلي مما طلعت عليه الشمس»([1]).
وفي الترمذي عن ثوبان أن رسول الله r قال: «من قال حين يمسي وإذا أصبح: رضيت بالله ربًا، والإسلام دينًا، وبمحمد r رسولاً؛ كان حقًا على الله أن يرضيه»([2]).
وفي الترمذي: «من دَخَلَ السُّوقَ، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة»([3]).
الرابعة والثلاثون: أن دوام ذكر الرب – تبارك وتعالى – يوجب الأمان من نسيانه، الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده؛ فإن نسيان الرب – سبحانه وتعالى – يوجب نسيان نفسه ومصالحها.
قال تعالى: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ [الحشر: 19].
وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها، ونسيها، واشتغل عنها، فهلكت وفسدت ولا بد؛ كمن له زرع، أو بستان، أو ماشية، أو غير ذلك؛ مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله، ونسيه، واشتغل عنه بغيره، وضيَّع مصالحه؛ فإنه يفسد ولا بُدَّ.
هذا مع إمكان قيام غيره مقامه فيه؛ فكيف الظن بفساد نفسه وهلاكها وشقائها إذا أهملها، ونسيها، واشتغل عن مصالحها، وعطَّل مراعاتها، وترك القيام عليها بما يصلحها؟! فما شئت من فساد وهلاك وخيبة وحرمان.
وهذا هو الذي صار أمره كله فُرطًا، فانفرط عليه أمره، وضاعت مصالحه، وأحاطت به أسباب القطوع والخيبة والهلاك.
ولا سبيل إلى الأمان من ذلك إلا بدوام ذكر الله – تعالى – واللهج به، وأن لا يزال اللسان رطبًا به، وأن يتولى منزلة حياته التي لا غنى له عنها، ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمه وهلك، وبمنزلة الماء عند شدة العطش، وبمنزلة اللباس في الحر والبرد، وبمنزلة الكن في شدة الشتاء والسموم.
فحقيق بالعبد أن ينزل ذكر الله منه بهذه المنزلة وأعظم، فأين هلاك الروح والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده؟! هذا هلاك لا بد منه، وقد يعقبه صلاح لا بد، وأما هلاك القلب والروح فهلاك لا يرجى معه صلاح ولا فلاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولو لم يكن في فوائد الذكر وإدامته إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها؛ فمن نسي الله – تعالى – أنساه نفسه في الدنيا، ونسيه في العذاب يوم القيامة.
قال تعالى: }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى{ [طه: 124-126].
أي: تنسى في العذاب كما نسيت آياتي، فلم تذكرها، ولم تعمل بها.
وإعراضه عن ذكره يتناول إعراضه عن الذكر الذي أنزله؛ وهو أن يذكر الذي أنزله في كتابه، وهو المراد بتناول إعراضه عن أن يذكر ربه بكتابه، وأسمائه، وصفاته، وأوامره، وآلائه، ونعمه؛ فإن هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه – تعالى ؛ فإن الذكر في الآية إما مصدر مضاف إلى الفاعل، أو مضاف إضافة الأسماء المحضة؛ أي: من أعرض عن كتابي، ولم يتله، ولم يتدبره، ولم يعمل به، ولا فهمه، فإن حياته، ومعيشته لا تكون إلا مضيقة عليه، منكدة معذبًا فيها.
والضنك: الضيق، والشدة، والبلاء.
ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة، وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ.
والصحيح أنها تتناول معيشته في الدنيا، وحاله في البرزخ؛ فإنه يكون في ضنك في الدارين، وهو: شدة، جهد، وضيق، وفي الآخرة يُنسى في العذاب.
وهذا عكس أهل السعادة والفلاح؛ فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة، ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثواب؛ قال – تعالى : }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً{ [النحل: 97].
فهذا في البرزخ ([4]).
وقال – تعالى - }وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{ [النحل: 41].
وقال – تعالى - }وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ{
[هود: 3].
فهذه الآخرة: وقال – تعالى -: }قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ [الزمر: 10].
فهذه أربعة مواضع ذكر – تعالى – فيها أنه يجزي المحسن بإحسانه جزاءين: جزاء في الدنيا، وجزاء في الآخرة؛ فالإحسان له جزاء معجل ولا بد، والإساءة لها جزاء معجل ولا بد، ولو لم يكن إلا ما يجازى به المحسن؛ من انشراح صدره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه – عز وجل – وطاعته وذكره، ونعيم روحه بمحبته؛ (لكفى).
وذكره وفرحه بربه – سبحانه وتعالى – أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه.
وما يُجازى به المسيء؛ من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازته، وغمه، وحزنه، وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق: عقوباتٌ عاجلة، ونارٌ دنيوية، وجهنم حاضرة.
والإقبال على الله – تعالى – والإنابة إليه، والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته: ثواب عاجل، وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبته.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: إن في الدنيا جنة؛ من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري؛ إن رُحْتُ فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة.
أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير. ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: «اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك»([5])([6]) ما شاء الله.
وقال لي مرة: المحبوس من حُبِسَ قلبه عن ربه – تعالى – والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: }فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ{ [الحديد: 13].
وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرَّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا، وقوة، ويقينًا، وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها!
قيل: وما أطيب ما فيها؟!
قال: محبة الله – تعالى – ومعرفته، وذكره. أو نحو هذا.
وقال آخر: إنه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا.
وقال آخر: إنه لتمرُّ بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
فمحبة الله – تعالى – ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين.
وإنما تقرُّ عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله – عز وجل ؛ فمن قرَّت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
وإنما يصدق هذا من في قلبه حياة؛ وأما ميت القلب فيوحشك ماله، ثم فاستأنس بغيبته ما أمكنك؛ فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك، فإذا ابتليت به فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، وفارقه بسرَّك، ولا تشغل به عما هو أولى بك.
واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله – عز وجل ، وانقطاعك عنه، وضياع وقتك عليك، وضعف عزيمتك، وتفرُّق همِّك.
فإذا بليت بهذا – ولا بد لك منه – فعامل الله – تعالى – فيه، واحتسب عليه ما أمكنك، وتقرَّب إلى الله – تعالى – بمرضاته فيه، واجعل اجتماعك به متجرًا لك، لا تجعله خسارة، وكن معه كرجل سائر في طريقه، عرض له رجل وقفه عن سيره، فاجتهد أن تأخذه معك وتسير به، فتحمله ولا يحملك، فإن أبى ولم يكن في سيره مطمع فلا تقف معه بلا ركب الدرب [فتنقطع]، ودعه ولا تلتفت إليه؛ فإنه قاطع الطريق، ولو كان من كان، فانجُ بقلبك، وضنَّ بيومك وليلتك، لا تغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة، فتؤخذ، أو يطلع الفجر [وقد فاتك الركب] أني لك بلحاقهم؟!
الخامسة والثلاثون: أن الذكر يُسيَّر العبد وهو في فراشه، وفي سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، وليس شيء يعم الأوقات والأحوال مثله، حتى إنه يسير العبد وهو نائم على فراشه، فيسبق القائم مع الغفلة، فيصبح هذا النائم وقد قطع الركب وهو مستلق على فراشه، ويصبح ذلك القائم الغافل في ساقه الركب،

0 التعليقات :

Copyright @ 2013 مؤسسة الاسلام .