وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
السادسة والثلاثون: أن الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور
له في معاده، ويسعى بين يديه على الصراط؛ فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر
الله – تعالى.
قال الله تعالى: }أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا{ [الأنعام:
122].
فالأول: هو المؤمن، استنار بالإيمان بالله، ومحبته، ومعرفته، وذكره.
والثاني: هو الغافل عن الله - تعالى ، المعرض عن ذكره ومحبته.
والشأن كل الشأن، والفلاح كل الفلاح، في النور، والشقاء كل الشقاء في
فواته.
ولهذا كان النبي r يبالغ في سؤال ربه – تبارك وتعالى - حين يسأله
أن «يجعله في لحمه، وعظامه، وعصبه، وشعره، وبشره، وسمعه، وبصره، ومن فوقه، ومن
تحته، وعن يمينه، وعن شماله، وخلفه، وأمامه، حتى يقول: واجعلني نورًا»([1]).
فسأل ربه – تبارك وتعالى – أن يجعل النور في ذَرَّاته الظاهرة والباطنة،
وأن يجعله محيطًا به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاته وجملته نورًا.
فدين الله – عز وجل – نور، وكتابه نور، ورسوله نور،
وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، ومن
أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنور وجهه.
وقد قال - تعالى: }وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا{
[الزمر: 69].
[الزمر: 69].
فإذا جاء - تبارك وتعالى - يوم القيامة للفصل بين عباده، وأشرقت بنوره
الأرض، وليس إشراقها يومئذ بشمس ولا قمر، فإن الشمس تكوَّر والقمر يخسف، ويذهب
نورهما، وحجابه - تبارك وتعالى - النور.
قال أبو موسى الأشعري: قام فينا رسول الله r بخمس كلمات، فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له
أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل
عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»([2]).
ثم قرأ ([3]): }أَنْ
بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا{ [النمل: 8].
فاستنارة ذلك الحجاب بنور وجهه، ولولاه سبحانه لأحرقت سبحات وجهه ونوره ما
انتهى إليه بصره.
ولهذا لما تجلى تبارك وتعالى للجبل، وكشف من الحجاب شيئًا يسيرًا ساخ الجبل
في الأرض، وتدكدك، ولم يقم لربه تبارك وتعالى.
وهذا معنى قول ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: }لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ{ [الأنعام: 103].
قال: ذلك الله – عز وجل – إذا تجلى بنوره لم يقم له شيء.
وهذا من بديع فهمه – رضي الله عنه – ودقيق فطنته، كيف وقد دعا له رسول الله
r أن يعلمه الله التأويل.
فالرب – تبارك وتعالى – يُرى يوم القيامة بالأبصار عيانًا، ولكن يستحيل
إدراك الأبصار له، وإن رأته؛ فالإدراك أمر وراء الرؤية، وهذه الشمس - ولله المثل
الأعلى - نراها ولا ندركها كما هي عليه، ولا قريبًا من ذلك.
ولذلك قال ابن عباس لمن سأله عن الرؤية وأورد عليه: }لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ{؛ فقال: ألستَ ترى السماء؟
قال: بلى.
قال: أفتدركها؟
قال: لا.
قال: فالله تعالى أعظم وأجل.
وقد ضرب سبحانه وتعالى النور في قلب عبده مثلاً لا يعقله إلا العالمون؛
فقال – سبحانه وتعالى: }اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ
مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [النور: 35].
قال أبيٌّ بن كعب: مثل نوره في قلب المسلم.
وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه؛ من معرفته، ومحبته، والإيمان به، وذكره،
وهو نوره الذي أنزل إليهم، فأحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس، وأصله في قلوبهم
ثم تقوى مادته؛ فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم - بل وثيابهم
ودورهم - يبصره من هو من جنسهم، وسائر الخلق له منكر.
فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بأيمانهم،
يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم
في الدنيا؛ فمنهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم، وآخر كالسراج، وآخر
يعطى نورًا على إبهام قدمه؛ يضيء مرة، ويطفيء أخرى؛ إذا كانت هذه حال نوره في
الدنيا؛ فأعطي على الجسر بمقدار ذلك؛ بل هو نفس نوره ظهر له عيانًا.
ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا؛ بل كان نوره ظاهرًا، لا باطنًا،
أُعطي نورًا ظاهرًا، مآله إلى الظلمة والذهاب.
وضرب الله – عز وجل – لهذا النور، ومحله وحامله ومادته مثلاً بالمشكاة ؛
وهي: الكوَّة في الحائط؛ فهي مثل المصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج،
وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه؛ وهي مثل القلب، وشبه بالزجاجة لأنها
جمعت أوصافًا هي في قلب المؤمن؛ وهي: الصفاء، والرقة، والصلابة؛ فيرى الحق والهدى
بصفائه، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء الله – تعالى –
ويغلظ عليهم ويشتد في الحق ويصلب فيه بصلابته، ولا تبطل صفةٌ من صفة أخرى، ولا
تعارضها؛ بل تساعدها وتعاضدها: }أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ{ [الفتح: 29].
وقال – تعالى - }فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ{ [آل عمران: 159].
وقال - تعالى: }يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ{ [التوبة:
73].
وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض:
أحدهما: قلب حجري قاس لا رحمة فيه، ولا إحسان، ولا برَّ، ولا له صفاء يرى
به الحق؛ بل هو جبار جاهل، لا علم له بالحق، ولا رحمة للخلق.
وبإزائه قلب ضعيف، مائي، لا قوة فيه، ولا استمساك؛ بل يقبل كل صورة، وليس
له قوة حفظ تلك الصور، ولا قوة التأثير في غيره، وكل ما خالطه أثر فيه؛ من قوي
وضعيف، وطيب وخبيث.
وفي الزجاجة مصباح؛ وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته، ولذلك النور
مادة، وهو زيت قد عُصر من زيتونه في أعدل الأماكن، تصيبها الشمس أول النهار وآخره؛
فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر، حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار؛ فهذه
مادة نور المصباح.
وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن؛ هو من شجرة الوحي التي هي أعظم
الأشياء بركة، وأبعدها من الانحراف؛ بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها؛ لم تنحرف
انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية؛ بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل
شيء؛ فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.
ولما كان الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار،
فاشتدت بها إضاءته، وقويت مادة ضوء النار به، كان ذلك نورًا على نور.
وهكذا المؤمن؛ قلبه مضيء، يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادة له من
نفسه، فجاءت مادة الوحي، فباشرت قلبه، وخالطت بشاشته، فازداد نورًا بالوحي على
نوره الذي فطره الله – تعالى – عليه، فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة، نور على
نور، فيكاد ينطق بالحق، وإن لم يسمع فيه أثرًا، فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته
مجملاً، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلاً، فينشأ إيمانه من شهادة الوحي والفطرة.
فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة، ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة؛ فذكر –
سبحانه تعالى – نوره في السماوات والأرض، ونوره في قلوب عباده المؤمنين، النور
المعقول المشهود بالبصائر والقلوب، والنور المحسوس المشهود بالأبصار، الذي استنارت
به أقطار العالم العلوي والسفلي؛ فهما نوران عظيمان، أحدهما أعظم من الآخر.
وكما أنه إذا فُقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره؛ لأن
الحيوان إنما يتكون حيث النور، ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور، ولا يعيش
فيها حيوان، ولا يتكون ألبته؛ فكذلك أمةٌ فُقِد فيها نور الوحي والإيمان، وقلب فقد
منه هذا النور ميت ولا بد، لا حياة له ألبتة؛ كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور
فيه.
والله – سبحانه – وتعالى – يقرن بين الحياة والنور؛ كما في قوله – عز وجل-:
}أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا{ [الأنعام:
122].
وكذلك قوله – عز وجل -: }وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ [الشورى:
52].
وقد قيل: إن الضمير في «جعلناه» عائد إلى الأمر.
وقيل: إلى الكتاب.
وقيل: إلى الإيمان.
وقيل: إلى الروح. أي: جعلنا ذلك الروح الذي أوحيناه إليك نورًا؛ فسماه
روحًا لما يحصل به من الحياة، وجعله نورًا لما يحصل به من الإشراق والإضاءة، وهما
متلازمان؛ فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الاستنارة والإضاءة، وجدت الحياة؛
فمن لم يَقبل قلبُه هذه الروحَ فهو ميت مظلم؛ كما أن من فارق بدنه روح الحياة فهو
هالك مضمحل.
فلهذا يضرب – سبحانه وتعالى – المثلين: المائي والناري معًا؛ لما يحصل من
الماء من الحياة، وبالنار من الإشراق والنور، كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة في
قوله تعالى: }مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ{ [البقرة:
17].
وقال: }ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ{، ولم يقل: بنارهم؛ لأن النار فيها الإحراق، والإشراق؛ فذهب بما
فيه الإضاءة والإشراق، وأبقى عليهم ما فيه الأذى والإحراق.
وكذلك حال المنافقين؛ ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر
والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم، وقلوبهم قد صليت بحرَّها وأذاها وسمومها ووهجها
في الدنيا، فأصلاها الله – تعالى – إياها يوم القيامة نارًا موقدة تطلع على
الأفئدة.
فهذا مثل من لم يصحبه نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن
استضاء به، وهو حال المنافق عرف ثم أنكر، وأقر ثم جحد، فهو في ظلمات أصم أبكم
أعمى؛ كما قال – تعالى – في حق إخوانهم من الكفار: }وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ
يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ [الأنعام:
39].
وقال – تعالى -: }وَمَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ{
[البقرة: 171].
[البقرة: 171].
وشبه – تعالى – حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال
مستوقد النار، وذهاب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله؛ لأن المنافقين بمخالطتهم
المسلمين، وصلاتهم معهم، وصيامهم معهم، وسماعهم القرآن، ومشاهدتهم أعلام الإسلام
ومناره، قد شاهدوا الضوء، ورأوا النور عيانًا، ولهذا قال – تعالى – في حقهم: }فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ{ [البقرة: 18] إليه؛ لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به
واستناروا، فهم لا يرجعون إليه.
وقال – تعالى – في حق الكفار: }فَهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ{؛ لأنهم لم يعقلوا الإسلام، ولا دخلوا فيه، ولا استناروا به، بل لا
يزالون في ظلمات الكفار، صم بكم عمي.
فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيًا، وإلى الإيمان وحقائقه مناديًا،
وإلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعيًا، وإلى طريق الرشاد هاديًا.
لقد أسمع منادي الإيمان لو صادف آذانًا واعية، وشفت مواعظ القرآن لو وافقت
قلوبًا خالية، ولكن عصفت على القلوب أهوية الشبهات والشهوات، فأطفأت مصابيحها،
وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة، فأغلقت أبواب رشدها، وأضاعت مفاتيحها، وران
عليها كسبها، فلم ينفع فيها الكلام، وسكرت بشهوات الغي وشهادة الباطل، فلم تصغ
بعده إلى الملام، ووعظت بمواعظ أنكى فيها من الأسنة والسهام، ولكن ماتت في بحر
الجهل والغفلة، وأسر الهوى والشهوة،
والمثل الثاني المائي قوله – تعالى: }أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ{ [البقرة: 19].
الصيِّب: المطر الذي يصوب من السماء؛ أي: ينزل منها بسرعة. وهو مثل القرآن
الذي به حياة القلوب؛ كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، فأدرك المؤمنين
ذلك منه، وعلموا ما يحصل به من الحياة التي لا خطر لها، فلم يمنعهم منها ما فيه من
الرعد والبرق، وهو الوعيد والتهديد والعقوبات والمثلات التي حذر الله بها من خالف
أمره، وأخبر أنه منزلها بمن كذب رسول الله r، أو ما فيه من الأوامر الشديدة؛ كجهاد الأعداء، والصبر
على الأمر أو الأوامر الشاقة على النفوس التي هي بخلاف إرادتها؛ فهي كالظلمات
والرعد والبرق، ولكن من علم مواقع الغيث، وما يحصل به من الحياة لم يستوحش لما معه
من الظلمة والرعد والبرق؛ بل يستأنس لذلك، ويفرح به؛ لما يرجو من الحياة والخصب.
وأما المنافق؛ فإنه عمي قلبه؛ لم يجاوز بصره الظلمة، ولم يرَ إلا برقا يكاد
يخطف البصر، ورعدا عظميا، وظلمة، فاستوحش من ذلك وخاف منه فوضع أصابعه في أذنيه؛
لئلا يسمع صوت الرعد، وهاله مشاهدة ذلك البرق، وشدة لمعانه وعظم نوره، فهو خائف أن
يختطف معه بصره؛ لأن بصره أضعف أن يثبت معه، فهو في ظلمة يسمع أصوات الرعد القاصف،
ويرى ذلك البرق الخاطف، فإن أضاء له ما بين يديه مشى في ضوئه، وإن فقد الضوء قام
متحيرًا، ولا يدري أين يذهب، ولجهله لا يعلم أن ذلك من لوازم الصَّيِّب الذي به حياة
الأرض والنبات، وحياته هو في نفسه، بل لا يدرك إلا رعدًا، وبرقًا، وظلمة، ولا شعور
له بما وراء ذلك؛ فالوحشة لازمة له، والرعب والفزع لا يفارقه.
وأما من أنس بالصَّيِّب وعلم أنه لا بد فيه من رعد وبرق وظلمة بسبب الغيم
استأنس بذلك، ولم يستوحش منه، ولم يقطعه ذلك عن أخذه بنصيبه من الصَّـيَّب.
فهذا مثل مطابق للصيب الذي نزل به جبريل - عليه
السلام - من عند رب العالمين – تبارك وتعالى – على قلب رسول الله
r؛ ليحيي به القلوب والوجود أجمع؛ اقتضت حكمته أن يقارنه
من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصَّـيِّب من الماء؛ حكمة بالغة، وأسبابٌ منتظمة
نظمها العزيز الحكيم.
فكان حظ المنافق من ذلك الصَّيِّب سحابه ورعوده وبروقه فقط؛ لم يعلم ما
وراءه، فاستوحش بما أنس به المؤمنون، وارتاب بما اطمأن به العالمون، وشك فيما
تيقنه المبصرون العارفون، فبصره في المثل الناري كبصر الخفاش نحو الظهيرة، وسمعه
في المثل المائي كسمع من يموت من صوت الرعد، وقد ذكر عن بعض الحيوانات أنها تموت
من سمع الرعد!!
وإذا صادف لهذه العقول
والأسماع والأبصار شبهات شيطانية، وخيالات فاسدة، وظنون كاذبة، جالت فيها وصالت،
وقامت بها وقعدت، واتسع فيها مجالها، وكثر بها قيلها وقالها؛ فملأت الأسماع من
0 التعليقات :
إرسال تعليق