فالعمال عملوا على الأجور، والعارفون عملوا على المراتب والمنزلة والزلفى
عند الله، وأعمال هؤلاء القلبية أكثر من أعمال أولئك، وأعمال أولئك البدنية قد
تكون أكثر من أعمال هؤلاء.
السادسة والأربعون: أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله – تعالى –
فينبغي أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله – تعالى.
السابعة والأربعون: أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه؛ فالقلوب
مريضة، وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى.
قال مكحول: ذكر الله – تعالى – شفاء، وذكر الناس داء.
كما قيل:
الثامنة والأربعون: أن الذكر أصل موالاة الله – عز وجل – ورأسها، والغفلة
أصل معاداته ورأسها؛ فإن العبد لا يزال يذكر ربه – عز وجل – حتى يحبه فيواليه، ولا
يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه.
قال الأوزاعي: قال حسان بن عطية: ما عادى عبد ربه بشيء أشد عليه من أن يكره
ذكره أو من يذكره.
فهذه المعاداة سببها الغفلة، ولا تزال بالعبد حتى يكره ذكر الله ويكره من
يذكره، فحينئذ يتخذه عدوًا؛ كما اتخذ الذاكر وليًا.
التاسعة والأربعون: أنه ما استجلبت نعم الله – عز وجل – واستدفعت نقمه بمثل
ذكر الله – تعالى؛ فالذكر جلاب للنعم، دافع للنقم؛ قال – سبحانه وتعالى: }إِنَّ اللَّهَ
يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا{ [الحج: 38].
وفي القراءة الأخرى: }إِنَّ
اللَّهَ يُدَافِعُ ([1]){ [الحج: 38].
فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله
– تعالى ؛ فمن كان أكمل إيمانًا، وأكثر ذكرًا كان دفع الله – تعالى – عنه ودفاعه
أعظم، ومن نقص نقص ذكرًا بذكر، ونسيانًا بنسيان.
وقال – سبحانه وتعالى: }وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ{ [إبراهيم: 7].
والذكر رأس الشكر كما تقدم، والشكر جلاب النعم، وموجب للمزيد.
قال بعض السلف – رحمة الله عليهم: ما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن
ذكرك ([2]).
الخمسون: أن الذكر يوجب صلاة الله – عز وجل – وملائكته على الذاكر، ومن صلى
الله – تعالى – عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز.
قال – سبحانه وتعالى: }يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَحِيمًا{ [الأحزاب: 41 - 43].
فهذه الصلاة منه – تبارك وتعالى – ومن ملائكته إنما هي سبب الإخراج لهم من
الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله – تبارك وتعالى – وملائكته
وأخرجوهم من الظلمات إلى النور؛ فأي خير لم يحصل لهم؟! وأي شر لم يندفع عنهم؟!
فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله، وبالله التوفيق.
الحادية والخمسون: أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا؛ فليستوطن مجالس
الذكر؛ فإنها رياض الجنة.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا وغيره من حديث جابر بن عبد الله قال: خرج علينا
رسول الله r فقال: «يا أيها الناس! ارتعوا في رياض الجنة».
قلنا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟
قال: «مجالس الذكر».
ثم قال: «اغدوا وروحوا واذكروا، فمن كان يجب أن يعلم منزلته عند الله؛
فلينظر كيف منزلة الله تعالى عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله من
نفسه»([3]).
الثانية والخمسون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس من مجالس الدنيا
لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله – تعالى – فيه، كما أخرجاه في «الصحيحين» من حديث
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «إن لله ملائكة فُضُلاً عن كتاب الناس، يطوفون في
الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله – تعالى - تنادوا:
هَلُمُّوا إلى حاجتكم».
قال: «فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا».
قال: «فيسألهم ربهم تعالى – وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟».
قال: «يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك».
قال: «فيقول: هل رأوني؟».
قال: «فيقولون: لا والله ما رأوك».
قال: «فيقول: كيف لو رأوني؟».
قال: «فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تحميدًا وتمجيدًا،
وأكثر لك تسبيحًا».
قال: فيقول: «ما يسألونني؟».
قال: «يسألونك الجنة».
قال: «فيقول: وهل رأوها؟».
قال: «يقولون: لا والله يا رب! ما رأوها».
قال: «فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟».
قال: «يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا،
وأعظم فيها رغبة».
قال: «فيقول: فمم يستعيذون؟».
قال: «من النار».
قال: «يقول: وهل رأوها؟».
قال: «يقولون: لا والله يا رب! ما رأوها».
قال: «يقول: فكيف لو رأوها».
قال: «يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافة».
قال: «يقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم».
قال: «فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة.
قال: «هم الجلساء
لا يشقى بهم جليسهم»([4]).
فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم؛ فلهم نصيب من قوله: }وَجَعَلَنِي
مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ{ [مريم: 31].
فهكذا المؤمن مبارك أين حل، والفاجر مشؤوم أين حل.
فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين، وكل مضاف إلى
شكه وأشباهه، وكل امريء يصير إلى ما ينسبه.
الثالثة والخمسون: أن الله – عز وجل – يباهي بالذاكرين ملائكته كما روى
مسلم في «صحيحه» عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما
أجلسكم؟
قالوا: جلسنا نذكر الله – تعالى.
قال: آلله، ما أجلسكم إلا ذاك؟
قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله r أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله r أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله r خرج على حلقة من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟».
قالوا: جلسنا نذكر الله – تعالى، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به
علينا.
قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟».
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل، فأخبرني أن
الله – تبارك وتعالى – يباهي بكم الملائكة»([5]).
فهذه المباهاة من الرب – تبارك وتعالى – دليل على شرف الذكر عنده، ومحبته
له، وأن له مزية على غيره من الأعمال.
الرابعة والخمسون: أن مدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك.
الخامسة والخمسون: أن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله – تعالى –
والمقصود بها تحصيل ذكر الله – تعالى.
قال – سبحانه وتعالى: }وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي{ [طه:14].
قيل: المصدر مضاف إلى الفاعل؛ أي: لأذكرك بها.
وقيل: مضاف إلى المذكور؛ أي: لتذكروني بها، واللام في هذا لام التعليل.
وقيل: هي اللام الوقتية؛ أي: أقم الصلاة عند ذكري؛ كقوله: }أَقِمِ الصَّلَاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ{ [الإسراء: 78].
وقوله – تعالى: }وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ{ [الأنبياء: 47].
وهذا المعنى يراد بالآية؛ لكن تفسيرها به يجعل معناها فيه نظر؛ لأن هذه
اللام الوقتية يليها أسماء الزمان والظروف، والذكر مصدر، إلا أن يقدر زمان محذوف؛
أي: عند وقت ذكري، وهذا محتمل.
والأظهر أنها لام التعليل؛ أي: أقم الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون
إقامتها عند ذكره، وإذا ذكر العبد ربه فذكر الله – تعالى – سابق على ذكره، فإنه
لما ذكره ألهمه ذكره؛ فالمعاني الثلاثة حق.
وقال – سبحانه وتعالى: }اتْلُ
مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مَا تَصْنَعُونَ{ [العنكبوت: 45].
فقيل: المعنى: إنكم في الصلاة تذكرون الله، وهو ذاكر من ذكره، ولذكر الله –
تعالى – إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وهذا يروى عن ابن عباس، وسلمان، وأبي الدرداء، وابن مسعود – رضي الله عنهم.
وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل بن مرزوق عن عطية: [ولذكر الله أكبر]؛ قال: هو
قوله – تعالى: }فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ{؛ فذكر الله – تعالى – لكم أكبر من ذكركم إياه.
وقال ابن زيد وقتادة: معناه: وذكر الله أكبر من كل شيء.
وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟! [ولذكر الله أكبر].
ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم،
وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ...» الحديث ([6]).
وكان شيخ الإسلام أبو العباس – قدس الله روحه – يقول: الصحيح أن معنى الآية
أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر؛ فإنها تنهى عن الفحشاء
والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله – تعالى – ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها
عن الفحشاء والمنكر.
وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله
أكبر.
السادسة والخمسون: أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله – عز وجل ؛
فأفضل الصوام أكثرهم ذكرًا لله – عز وجل – في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرًا
لله – عز وجل – وأفضل الحاج أكثرهم ذكرًا لله – عز وجل – وهكذا سائر الأحوال.
وقال عبيد بن عمير: إن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه، وبخلتم بالمال أن
تنفقوه، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله – عز وجل.
السابعة والخمسون: أن إدامته تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت
بدنية، أو مالية، أو بدنية مالية؛ كحج التطوع.
وقد جاء ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله r، فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى،
والنعيم المقيم.
فقال: «وما ذاك؟».
قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم، يحجون بها،
ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون.
فقال: «ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا
أحد يكون أفضل منكم إلا من صنع ما صنعتم».
قالوا: بلى يا رسول الله.
فجعل الذكر عوضًا لهم عما فاتهم من الحج، والعمرة، والجهاد، وأخبر أنهم
يسبقونهم بهذا الذكر.
فلما سمع أهل الدثور بذلك عملوا به، فازدادوا – إلى صدقاتهم وعبادتهم
بمالهم – التعبد بهذا الذكر، فحازوا الفضيلتين، فنافسهم الفقراء، وأخبروا رسول
الله r بأنهم قد شاركوهم في ذلك، فانفردوا عنهم بما لا قدرة
لهم عليهم، فقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»([9]).
وفي حديث عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! كثرت علي
خلال الإسلام وشرائعه، فأخبرني بأمر جامع يكفيني. قال: «عليك بذكر الله - تعالى».
قال: ويكفيني يا رسول الله؟
قال: «نعم، ويفضل عنك»([10]).
فدله الناصح r على شيء يعينه على شرائع الإسلام، والحرص عليها، والاستكثار منها؛ فإنه
إذا اتخذ ذكر الله – تعالى – شعاره أحبه وأحب ما يحب؛ فلا شيء أحب إليه من التقرب
بشرائع الإسلام، فدله r على ما يتمكن به من شرائع الإسلام، وتسهل به عليه، وهو
ذكر الله – عز وجل.
الثامنة والخمسون: أن ذكر الله – عز وجل – من أكبر العون على طاعته، فإنه
يحببها إلى العبد، ويسهلها عليه، ويلذذها له، ويجعلها قرة عينه فيها، ونعيمه
وسروره بها؛ بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجد الغافل، والتجربة
شاهدة بذلك.
التاسعة والخمسون: أن ذكر الله – عز وجل – يسهل الصعب، وييسر العسير، ويخفف
المشاق، فما ذكر الله – عز وجل – على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا
مشقة إلا خفت، ولا شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت، فذكر الله – تعالى – هو
الفرج بعد الشدة؛ واليسر بعد العسر، والفرج بعد الغم والهم.
الستون: أن ذكر الله – عز وجل – يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب
في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله – عز وجل ؛ إذ
بحسب ذكره يجد الأمن، ويزول خوفه، حتى كأن المخاوف التي يجدها أمان له، والغافل
خائف مع أمنه، حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومن له أدنى حسن قد جرب هذا
وهذا. والله المستعان.
0 التعليقات :
إرسال تعليق