الحديث و الدعاء و الحكمة

محاضرة اسلامية..



ويقول الإمام المحدّث الفقيه حكيم الأمة أشرف علي التهاوني([1]): "يتشابه شبلي النعماني وسليمان الندوي تشابه ابن تيمية وصاحبه ابن القيّم".
وقال إمام العصر الشيخ محمد أنور شاه الكشميري: "إذا جُمع علم الغزالي والرازي إلى ورع الجنيد والشبلي تكوّن منه سليمان الندوي".
وقال الأديب والأريب عبد الماجد الدريبادي: "يؤمن الزمان بأنّ السيد سليمان الندوي عالم فريد, وبحّاثةٌ منقطع النظير, يخضع العالم لإمامته في التاريخ, وتفرِّده بكتابة السيرة, ولكن قلما عرف الناس مكانته في الأدب والشعر والنقد, وقلما علمه الناس أديباً ومنشئاً وشاعراً قديراً".
ويقول سماحة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله: "كان السيد سليمان الندوي راسخاً في العلوم العربية وآدابها, علي الكعب, دقيق النظر في علوم القرآن وعلم التوحيد والكلام, واسع الاطلاع, غزير المادة في التاريخ, وعلم الاجتماع والمدنية, منشئاً , صاحب أسلوب أدبي في اللغة الأردية, كاتباً مترسلاً في اللغة العربية, شاعراً مقلاً في اللغتين, مع إحسان وإجادة"([2]).
بعض صفاته وأخلاقه العالية:
يقول الأستاذ مسعود الندوي: "فقد كان رجلاً ذا مروءة غريبة, كريماً يجري الكرم في دمه, لا يغضب ولا يسخط , يصفح عن عدوه, ويدعو لمن يتناوله بالسـوء, أما التلاميذ والمخلصون فيشملهم بعطفه الأبوي, ويبسط على كل فرد منه ظلال شفقته وحنانه, كأنه قد مُنح في هذا الشأن لمحة من سيرة جده الكريم صلى الله عليه وسلم"([3]).
وفاته :
بعدما أمضى عمره الحافل بالعمل الدؤوب, والمآثر الخالدة, والخدمات العلمية والدينية الجليلة, وافاه الأجل بباكستان في غرة ربيع الآخر عام 1373هـ الموافق 2 تشرين الثاني – نوفمبر عام 1953م. ودفن بجوار الشيخ شبير أحمد العثماني رحمهما الله تعالى وأمطر عليهما شآبيب رحمته ومغفرته.
قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) [الفجر : 27-30].

السيد سليمان الندوي
مسعود الندوي
وفيما يأتي يجدر بنا أن نتحف القرَّاء الكرام بما فاض به قلم الكاتب الأديب الأستاذ مسعود عالم الندوي رحمه الله (أحد تلاميذ العلامة سليمان الندوي, ومن المقربين إليه, والملازمين له إلى آخر لحظات حياته) حول ترجمة أستاذه ومربيه, يقول رحمه الله:
"لقد علم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: أن عالم الهند وعالم باكستان الأكبر, الأستاذ العلامة المحقق, السيد سليمان الندوي قد استأثرت به رحمة الله, وانتقل إلى دار الخلود, في الرابع عشر من شهر ربيع الآخر عام 1373هـ, وقلَّ من عرف منهم أي مصاب أصيب به المسلمون والعالم الإسلامي بوفاته, والذين عرفوا ذلك منهم, ربما لا يستطيعون أن يقدروا الخسارة العظمى التي خسرتها الدعوة الإسلامية في باكستان بارتحاله في هذا الآونة الخطيرة من حياتها, التي سيكون لها ما بعدها في تاريخ هذه البلاد إلى قرون وأجيال, وذلك للصراع الشديد الذي لا يزال قائماً بين أنصار الدستور الإسلامي, وبين أتباع الغرب, المفتتنين باللادينية الغربية.
فقد كان المغفور له بطلاً من أبطال هذا الكفاح, وطوداً من أطواد الحق, وسنداً يرجع إليه في المشكىت, وحجة على  الخصوم الجاحدين, فإنه مهما بلغ من جحود المعاندين, وتعنت المكابرين, لم يكن في مكنتهم أن يردوا على السيد –رحمه الله- ونضّر وجهه يوم القيامة – في شيء من أمور الشريعة, والقوم لا يتجرؤون على كرههم للدين, وبغضائهم للشريعة, أن يجحدوا بالشريعة علناً, خوفاً من الشعب المؤمن القوي, وإنما جُلُّ متاعهم المكابرة والتحريف. فكان دعاة الحق والمدافعون عن مبادئ الإسلام يلتجئون إلى السيثد, ويحتمون بعلمه وشخصيته للرد على الجاحدين المتعالين, الذين يتكلمون في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من غير أن يكلفوا أنفسهم أن يصرفوا ولو سُويعات من أوقاتهم في دراسة اللغة الكريمة التي أُنزل بها القرآن العزيز, ونطق بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
فمن حق قراء (المسلمون) وإخواننا في الأقطار الإسلامية أن يعرفوا نتفاً من سيرة الفقيد الراحل وأعماله ومساعيه, وجهوده المتواصلة المتتابعة للنهوض بالأمة الهندية المسلمة, وترقية مستواها العلمي والأدبي والخلقي. ومن حق أستاذنا على تلميذه الحقير أن ينوّه بمآثره, وجلائل أعماله, وخصائص حياته, التي يعرفُ منها ما لا يعرفه إلا قليل من الناس.
إن الذين نعرفهم من رجال العلم الإسلامي, والذين عرفناهم واتصلنا بهم, ودرسنا سيرتهم وتراجمهم من رجال الهند وباكستان, تنحصر عظمتهم ونبوغهم في ناحية دون ناحية, أو عدة من نواحي الحياة وشُعب العلم, ولكنا لا نعرف من بينهم من أخذ من كل شيء بقسط كالأستاذ سليمان.
تخرج السيد سليمان من دار العلوم التابعة لندوة العلماء على أساتذتها, ومنهم العلامة المحقق شبلي النعماني (1273-1332هـ) وجعل من بعد ذلك يساعدُ الأستاذ النعماني في تحرير مجلة (الندوة) التي كان يرأس تحريرها, والتي كانت أم المجلات الأردية العلمية يومئذ. ثم عُيِّن مدرساً للغة العربية في دار العلوم التي تخرّج فيها, فظهر من كفاءته وملكته الأدبية وتفننه في طرق التدريس ما أنطق الألسنة بالثناء عليه.
فظل كذلك زهاء ست سنين (1906-1912م) كتب خلالها في مجلة (الندوة) مقالات تنبأت لكاتبها الشاب بنبوغ مأمول, ومستقبل زاهر, وأتى في حقل الأدب العربي بالعجائب, وخلّف آثاراً في القول المنظوم والمنثور مما يعجز عنه مثله نوابغ أدباء الهند وشعرائها. وما ظنُّك بهندي غريب عن مهد العروبة والعواصم العربية, تجود قريحته بمثل هذا القول المطبوع, وهو في عنفوان شبابه:
دِنٌّ من القهوة الصهباء في الأفق  والكأس تطفو به لا الشمس في الشفق
بل إنه برقــــعٌ قانٍ له شيةٌ والشمس وجهُ حبيبٍ بالحجـاب يقي
بل إنما الشمس للصـواع بوتقة     قد زان عسجدها وانثج في طــرق
بل إنما الشمس من أعمارنا قتلت  يوماً, فسال دمٌ جارٍ من العنـــقِ
فذلك الشفقُ المحمــر من دمه      وقبرهُ ليلُه المستورُ بالغســـــقِ
ثم التحق بصحيفة الهلال الأسبوعية الزاهرة لأبي الكلام – التي لم تصدر صحيفة أسبوعية مثلها باللغة الأردية إلى الآن – فعارض صاحبها المبدع في أسلوبه, وجعل ينشئ مقالات افتتاحية, لم يعرف الناس أبا عذرتها وابن جلدتها, فتارة نسبوها إلى أبي الكلام, صاحب الصحيفة, ورئيس تحريرها, وأخرى عزوها إلى السيد سليمان, حتى إن المقالة التاريخية (مشهد أكبر) التي ظهرت في الهلال بمناسبة قضية هدم بناء الجامع في مدينة كابور, والتي قامت لها البلاد وقعدت ما حاك وشيها ونسج بردها إلا يراع السيد سليمان الندوي.
وبعدما تقلب المترجم في عدة وظائف رسمية بعد الانقطاع عن دار الهلال أسس جمعية دار المصنفين الشهيرة التي كان وصى بها أستاذه شبلي النعماني, وعاجلته المنية دون إبراز أمنيته – أمنية تأسيس مجمع علمي – إلى عالم الوجود. تأسس هذا المجمع العلمي – دار المصنفين – سنة 1323هـ - 1915م في مدينة أعظم كره, مولد شبلي النعماي, ومنبت أرومته, فعكف السيد سليمان يتعهد الدار ويعنى بتدريب الشبان وتثقيف أحداث الكتاب وينشر نتاج قرائحهم بعد تهذيبه إلى أن تكونت جماعة صالحة من أفاضل الكتاب والمؤلفين الذين وقفوا حياتهم لخدمة الدين والعلوم الإسلامية, وما زالت تنمو هذه الجماعة ويكثر عددها وتتسع دائرتها حتى يمكنني الآن أن أقول : إن الذين تخرجوا على السيد وتثقفوا على يعده في دار المصنفين في الخمس والثلاثين سنة الماضية (1334-1370هـ/1916-1950م) هم أكثر عدداً وأوفر مادة وأخصب نتاجاً من المتخرجين في سائر الدوائر الإسلامية مجتمعة في هذه البلاد, أقول ذلك ولا أبالغ وإنما ذكرته تحدثاً بنعمة الله, وعلى الفقيد رحمة الله.
وهذه مجلدات مجلدة معارف الضخمة لسان حال جمعية دار المصنفين تكوِّن مكتبة عظيمة بنفسها وهي من أرقى مجلات الهند, وأغزرها مادةً بلا نزاع.
ومصنفات السيد وزملائه أعضاء المصنفين وتلاميذه البارزين من الندويين, والذين تخرجوا على أيدي تلاميذه ولا يزالون يستفيدون من دروسه, والحضور في مجالسهم العلمية قد سارت سير الشمس, واخترقت حدود البلاد, وقد تُرجم كثير منها باللغات التركية والفارسية والإنكليزية واللغات الهندية الواسعة.
ومن أبرز أعماله العلمية وأرفعها إكماله لكتاب (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) الذي كان بدأ بتأليفه أستاذه المحقق العلامة شبلي النعماني, وهذا الكتاب هو دائرة معارف في السيرة النبوية, نُشرت منه سبعة مجلدات ضخمة, لا يقل أحدها عن سبعمائة صفحة من القطع الكبير, وهذه المعلمة من عيون ما ألفه علماء الإسلام منذ قرون, ومن غرر ما أهداه علماء الهند إلى المكتبة الإسلامية العامة, وقد اشتمل المجلدان الأولان على ترجمة حياة النبي صلى الله عليه وسلم, عُني بتدوين معظمها المغفور له شبلي النعماني, الذي كان يعد هذا الكتاب خاتمة أعمال حياته .
وكان جد حريص على البحث والتنقيب, والرد على مطاعن الإفرنج, وكذلك كان يتألق في الكتابة, حتى إن بعض قطع المجلد الأول تعد أحسن ما كتب كاتب باللغة الأردية, لغة مسلمي الهند وباكستان العامة.
والمجلد الثالث خاص بالمعجزات عني بتأليفه وتأليف المجلدات التالية السيد سليمان. وفي المجلد الثالث مقدمتان علميتان من الوجهتين الفلسفيتين : القديمة والحديثة, أثبت فيها المؤلف بما لا مجال بعده للشك, إمكان المعجزات وعدم معارضة العلوم العقلية لها. وقد اهتى بهما كثير من المنخدعين بعلوم الإفرنج وضلالاتهم.
أما المؤلف نفسه فيؤمن بكل ما جاء به النبي الأمي صلى الله عليه وسلم, إيمان السلف الصالح من غير لجوء إلى فلسفة أو تكلف برهان.
والمجلد الرابع يحتوي بحثاً دقيقاً في منزلة النبوة, والفرق بينهما وبين منازل الإصلاح والتجديد والزعامة, وهذا البحث يقع في نحو (300) صفحة, وهو من أحسن ما كتبه الأستاذ سليمان.
ثم تكلم الأستاذ في العقائد, ولم يكن يستند في بحوثه إلى شيء غير الكتاب والسنة. والذي أعرفه من علمه وعلم معاصريه: أنه ما كان يضاهيه أحد في الجمع بين أسرار الكتاب العزيز ومعرفة السنة النبوية, والاطلاع على كتب العلماء الأقدمين.
وجدير بالذكر أنه قد فاق أستاذه النعماني في الاطلاع على أسرار الشريعة, واستكناه وجوه التأويل, ومعرفة السنة النبوية.

0 التعليقات :

Copyright @ 2013 مؤسسة الاسلام .