الحديث و الدعاء و الحكمة

حكم الغناء..

فقد روى البيهقي وابن أبي الدنيا في " ذم الملاهي " والآجري وغيرهم؛من حديث حماد بن زيد, عن إبراهيم النخعي, عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما بنبت الماء البقل ).

وكذلك جاء عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- ما رواه ابن أبي الدنيا من حديث يحيى بن سعيد,عن عبيد الله,عن نافع,عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه-:  أنه مرَّ عليه قوم محرمون وفيهم رجلُُ يتغنىَّ، فقال: (( ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع لله لكم )) 

وما رواه البخاري في " الأدب المفرد " والبيهقي في " السنن " من طريق عبد العزيز الماجشون,عن عبدالله بن دينار قال: مر ابن عمر بجارية صغيرة تغني,فقال:لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه.


وكذلك جاء عن عائشة- رضي الله عنها- ما رواه البيهقي في " سننه " من حديث بكير بن الأشجّ عن أم علقمة مولاة عائشة أنها قالت: ( إن بنات أخي عائشة خُفِضن فتألمنَ,فقيل لعائشة: لو جئنا بأحدٍ يلهيهن، فقالت: لا بأس، ائتوا بالمغني فلان، فجيء به.

قالت: فأخذ يتغنى، فدخلت عليه عائشة وهو يتغنى، ويحرك رأسه، وله شعرٌ طويل.

فقالت عائشة عليها رضوان الله تعالى: أُفٍ! شيطان! أخرجوه أخرجوه ).

وعائشة عليها رضوان الله هي التي دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح, وعندها جاريتان تغنيان بغناء بُعاث.

هنا قالت: ( الشيطان )، وهنا ( عندها جاريتان تغنيان بغناء بعاث ) ؟

فذلك غِنَاءٌ وهذا غِنَاء آخر، فذاك شيءٌ وذاك شيءٌ آخر, ولاعلاقة بآلات اللهو والطرب فيه مطلقًا.


وقد جاء عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه- كما رواه أبو داود في "سننه" من حديث نافعٍ, عن عبد الله بن عمر: (( أنه سمع مزمارًا فوضع أصبعيه في أذنيه، فقال لابنه نافع: أتسمع صوتًا ؟ فقال: لا، فقال: إني كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ففعل ما فعلت )).


وإسناده قد تكلم فيه، وصححه ابن رجب -رحمه الله- في رسالته " السماع".

وكذلك قد جاء عن غيرهم من الصحابة، جاء عن عبد الله بن عباس وغيره في ذلك.

ولا يزال العلماء على مرِّ العصور ينقلون إجماع السلف والخلف على تحريم الغناء وآلات اللهو والطرب، فمن نظر إلى العلماء في كل قرن وجد أنهم يتتابعون على نقل الإجماع مقرين له.

ولا أعلم قرنًا من القرون خلا من عالمٍ ينقل إجماع العلماء على تحريم الغناء والمعازف.


ولذلك قد نقله زكريا بن يحي الساجي في كتابه "اختلاف العلماء" في القرن الثالث إذ جل حياته فيه.ونقله الآجري رحمه الله في القرن الرابع. ونقله أبو الطيب الطبري وابن عبد البر في القرن الخامس. ونقله ابن قدامة وأبو القاسم الدولعي الشامي الشافعي في القرن السادس.


ونقله ابن الصلاح والقرطبي والعز بن عبد السلام في القرن السابع. ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية والسبكي وابن رجب وابن القيم وابن مفلح وغيرهم في القرن الثامن. ونقله العراقي والبزازي الحنفي في القرن التاسع. ونقله ابن حجر الهيتمي في القرن العاشر. ونقله الآلوسي وأحمد الطحطاوي في القرن الثالث عشر. ونقله الغماري في القرن الرابع عشر.  


ولا يزال العلماء على شتى مذاهبهم؛ من المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة مطبقين على تحريم الغناء والمعازف.

ولذلك فمن نظر إلى من حكى الإجماع وجد اختلاف بلدانهم، وتباين مذاهبهم.

فمن المالكية: ابن عبد البر في " التمهيد "،  والقرطبي في " تفسيره "، وابن القطان الفاسي في كتابه " الإقناع في مسائل الإجماع ".

ومن الشافعية: جماعة وخلق كثير كابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، وابن حجر الهيتمي، والعراقي، والطرطوسي وغيرهم.

ومن الحنابلة": ابن قدامة، وابن رجب، وابن تيمية، وابن القيم، وابن مفلح، وغيرهم.

ومن الحنفية: الفقيه الحنفي محمد البزازي في "المناقب"، وزين الدين الكرماني، وشيخ الحنفية أحمد الطحطاوي في مصر في "حاشيته على مراقي الفلاح".

وكذلك أئمة المذاهب بأنفسهم: قد نصوا على التحريم، وحكى الإجماع من أهل المذاهب على اختلاف بلدانهم.


* فابن عبد البر والقرطبي في الأندلس.

* وابن القطان الفاسي والغماري في المغرب.

* وابن قدامة وابن الحنبلي وابن تيمية والعز بن عبد السلام وابن رجب وابن القيم في الشام.

* وابن حجر الهيثمي والطحطاوي الحنفي في مصر.

* والعراقي والآلوسي في العراق. 


* وفي بلاد الترك والبلغار: الفقيه الحنفي محمد البزازي الكردي، في "الفتاوى البزازية". وغيرهم خلق كثير على اختلاف بلدانهم.

ومن حكى خلافًا في هذه المسألة فقد غلب عليه هواه.

يقول ابن حجر الهيتمي: في كتابه " كف الرعاع " : ( ومن حكى خلافًا في الغناء فإنه قد وهِمَ وغَلِط، وغلب عليه هواه حتى أصمّه وأعماه ).


ومن نظر إلى الأئمة الأربعة وجد نصوصهم متضافرة على تحريم الغناء بالنص.

فالإمام مالك: قد روى الإمام أحمد في كتاب " العلل " والخلال في " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " من حديث إسحاق بن عيسى الطبّاع، قال: ( سألت مالكًا عن سماع الغناء ؟ فقال: إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ).

وأما الإمام أحمد: فقد نقل عنه ابنه عبد الله في كتابه " المسائل " قال: ( سألت أبي عن الغناء ؟ فقال: ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني )، ثم نقل قول الإمام مالك رحمه الله: ( إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ).

قال أبو حنيفة رحمه الله: ( وأما الغناء فهو محرّم عند سائر الأديان). ورد شهادة المغنّي الأئمةُ من أتباع مذهبهِ.


وأما الإمام الشافعي- رحمه الله- فقال: الغناء لهوٌ مكروه، ويشبه الباطل والمحال، وقد نص في كتابه " أدب القضاء " وكذلك في كتابه " الأم " على أن المغنّي ترد شهادته.

وأعْجَبُ مِنْ قول من يقول: إن رد الشافعي لشهادة المغني مع قوله" لهو مكروه يشبه الباطل" ليس بصريح في التحريم. وإن قول الإمام مالك: ( إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ) ليس بصريح في التحريم. 


وإن قول الإمام أحمد: ( ينبت النفاق في القلب ) ليس بصريح بالتحريم!! فأي تحريم يثبت في الشرع عنهم حينئذٍ إن لم يكن هذا القول صريحًا بالتحريم ؟؟

وإن كنا نعلم بل نتيقن أن أقوال الأئمة من الأئمة الأربعة وغيرهم ليست نصوصًا من الوحي، وأن كلامهم ليس بحجه، وأنه بحاجة إلى أن يحتج له لا أن يحتج به، ولكن تساق أقوال الأئمة- رحمهم الله- ليُعْلم الإجماع والإطباق، فإن الإجماع معتبر،ولا يكون إلا على نص.


ونقل تكفير من أباح الغناء عن أئمة من ثلاثة مذاهب متبوعة.

قال بعض أصحاب أبي حنيفة : ( سماع الغناء فسق، والتلذذ به كفر)، والتصريح بكفر مستحل الغناء قال به من الحنفية: حافظ الدين الفقيه محمد البزازي في "الفتاوى البزازية"، وزين الدين الكرماني.


قال البزازي في "فتاويه": ولما عُلِمَ أنّ حرمَتَهُ بالإجماع لزم أن يكفّر مُسْتَحِلَّه.

وقال به القاضي عياض المالكي،بل حكى الإجماع على كفر مستحله.

وحكاه ابن الحنبلي، كما نقله ابن رجب- رحمه الله- في كتابه " ذيل طبقات الحنابلة " عن ابن قدامه.


وإن كان هذا القول ليس على الصواب، بل أن فيه تشددًا، وذلك أن الكفر بعيد، وإنما هو هوى وجرمٌ وذنبٌ، وقد عدّه غير واحد من الأئمة من كبائر الذنوب كابن النحّاس في كتابه " تنبيه الغافلين "، وابن حجر الهيتمي في كتابه " الزواجر " عدّوا سماع الغناء من الكبائر.

ولا أعلم مسألة عدّها العلماء من الكبائر، ونٌقِل الإجماع فيها، فتكون مباحة على قول معتبر.


ومن نظر إلى كلام بعض المتأخرين ممن يتكلم على مسائل الغناء، وكذلك المعازف من الموسيقى وغيرها، ويستدل على إباحتها بما جاء عن بعض الأئمة من السلف أنهم كانوا يستمعون للغناء ونحو ذلك مما ورد عن أهل المدينة، فإنه قد اشتهر عنهم السماع، فالمراد بالسماع هو: الحداء والألحان والأناشيد، وليس المراد بذلك المعازف إطلاقًا.

ولذلك ينقل العلماء أن السماع هو مذهب أهل الحجاز، فأي سماع   أرادوا ؟

الجواب : أرادوا السماع الذي قد أطبق عليه الناس الآن في وقتنا عامّة، من المبالغة بسماع  الحداء والأناشيد وغيرها.


وقد سُئِل الإمام مالك- رحمه الله- عن الغناء فقال: ( إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ).

وسُئِل الإمام الشافعي- رحمه الله: حيث سأله يونس، فقال: سألت الشافعي عن السماع الذي أراده أهل المدينة ؟ فقال الشافعي - وهذا نقل نفيس عنه - : ( لا أعلم أحدًا من أهل المدينة كره السماع إلا ما كان على الأوصاف، وأما ما كان من إنشاد الشعر والحداء وذكر المرابع، فإنه مباح)، إذًا المراد بذلك كلّه لا يخرج عن الكلام الملحّن.

ويوهم كثير من النقلة أن المراد بالسماع عند أهل المدينة هو المعازف وآلات الطرب، وهذا جهل شنيع، فما قال بذلك أحدٌ معتبر.


بل قال ابن حجر الهيتمي في كتابه " كف الرعاع ": ( لم يحفظ عن أحد ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المجتهدين من قال بإباحة المعازف).

وقد لبس – أولُبِّس على -  كثير ممن صنّف في إباحة اللهو والغناء حيث أدخلوا عن هوى أو شبهة مسألة المعازف والموسيقى فيها، ولا علاقة لها فيه.

وقد نظرت في المصنفات التي صنّفت في هذا الباب، فرأيت أن من ذكر الموسيقى فيها لا دليل في كتابه كلّه على شيء من ذلك، وأنه يستدل ببعض الألفاظ التي جاء فيها ذِكر الغناء، وذلك لا يعدو كونه شعرًا وحداءً، ومن نظر إلى أشعار العرب وكتب اللغة وجد ذلك ظاهرًا.


ويستدلون ببعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فمنها ما جاء في الصحيح من حديث عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: دخل عليَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناءٍ بعاث، فدخل أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (( دعهما)).

مغنيتان تغنيان: المراد بالغناء هو الحداء، وهذا معلوم ولا ريب فيه، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل اللغة، وإنما خالف فيه من جَهِل الاصطلاح ممن تأخر.

فيقال أولًا: إن ذلك ليس فيه دليل، فليس ثمّة آلة لهوٍ؛ لا مزمار ولا طبل ولا غيرها.

الأمر الثاني: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان سامعًا، ولم يكن مستمعًا، ومعلوم أن ثمّة فرق بين السماع والاستماع.

فالسماع: هو أن ينفذ إلى سمع الإنسان شيء من غير اختياره ومن غير إنصات.

فإن الله عز وجل قد حرّم الغيبة والنميمة وحرّم الاستماع إليها، والجلوس عند من يخوض في كلام الله عز وجل استهزاءًا، وقد ينفذ  إلى مسَامِعِهِ شيء من الحرام ولا يأثم بذلك.


وهذا نظير المُحرم حينما يأتي إليه من رائحة الطيب مما لا يتعمّده شمًّا، ولا يلحق في ملابسه فليس عليه شيء.

ويقول ابن قدامة رحمه الله: ( ومن لا يفرّق بين السماع والاستماع فإن ذلك جاهل، وليس أهلًا للفتيا).

ويخلط كثير من الناس بين هذا وهذا، وقد أورد بعضهم في هذا الباب ما جاء عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- ويأتي الكلام عليه، ووضع إصبعيه في أُذُنيه حينما سمع مزمارًا. 


فسماع عائشة للمغنيتين اللتين تغنيان عندها بغناء بعاث ليس المراد بذلك المعازف بالإطلاق، وذلك أن عائشة تنكر الزيادة في الإطراب بالقول، فكيف بالمعازف أيضًا ؟

فقد روى البيهقي – كما تقدم – من حديث بكير بن الأشج عن أم علقمة: ( أن عائشة قد خُفِضت بنات أخيها– القاسم بن محمد –  فتألمنَ، فقيل: نأتي بمغني يلهيهنَّ، فقالت: ائتوا بفلان، فجيء به فأخذ يغني، فرأته عائشة وهو يهز رأسه وشعره طويل، فقالت: أخرجوه! شيطان شيطان).


وبعضهم يستدل – أيضًا – بما جاء في الصحيح من حديث عائشة أنها قالت: (( إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليسترني وأنا أنظر إلى زفن الحبشة في المسجد)).

0 التعليقات :

Copyright @ 2013 مؤسسة الاسلام .