الحديث و الدعاء و الحكمة

حكم الغناء

وانظر إلى قول عطاء بن أبي رباح, قال: لا بأس بالغناء والحداء للمحرم.
ومن نظر إلى النصوص من الكتاب والسنة, وكذلك ما جاء عن الصحابة وجَدَ أنه ينبغي أن يفهم الوحي بلغة العرب الفصيحة, مما لم يدخلها عجمةٌ أو لحن.
ولذلك استنكر ابن قدامة على من خلط بين هذا وهذا, وجعله ليس أهلًا للفتيا.
ولم يظهر الغناء باستعمال آلات الطرب واللهو إلا في أواخر القرن الثالث.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة؛ لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في مصر ولا في العراق ولا في المغرب ولا في خرسان عند أهل الصلاح ,وأهل الزهادة, وأهل العبادة الاجتماع على مثل المكاء والتصدية، إنما نشأ ذلك في أواخر المائة الثانية ).

ولذلك يُعلم أن ما يطلق من أقوال بعض الصحابة وأشعار العرب من  ذكر الغناء,  فالمراد به الأشعار, وما يسمى في وقتنا بالأناشيد.
وقد نص على هذا التعريف غير واحد من الأئمة؛ من أئمة اللغة وغيرهم؛ كأبي عبيد القاسم بن سلاّم، بل نص عليه الإمام الشافعي، ويأتي الكلام عليه بإذن الله.
والمراد من ذلك أنه ينبغي أن يفرّق بين اصطلاح أهل العصر واصطلاح الأوائل, وإن كان اللفظ واحدًا, ويشمل عند التنظير في اللغة كِلا الأمرين، لكنّه لا بد من النظر لظاهر الحال, وما يُطلقُ عليه ذلك الاستعمال وما اقترن به.

ولذلك لما ظهر الغناء في مصر، من نحو أربعين سنة، وأحتج بعضهم ببعض الألفاظ التي جاءت عن بعض السلف, من ذكر الغناء, والمراد به الألحان والحداء وأمثاله المجردة، واستدلوا بتلك النقول , قال الغماري- وهو من علماء المغرب-: ( حتى إبليس داخل في إجماع العقلاء على حرمة ذلك ).

أي: أن ما فعله أُولئك بعيد عما نُقِل عن الصحابة والتابعين من ذلك اللفظ، ولذلك وقع اللبس عند كثير ممن غلب عليه هواه، وعند قِلّة ممن ينتسب إلى العلم.
وقد جعل ابن قدامة رحمه الله من خلط بين هذه المفاهيم ليس أهلًا للفتيا.
ومن نظر إلى الأدلة من الكتاب والسنة وجد أن الله سبحانه وتعالى قد نص في غير ما آية على حرمة الغناء واللهو، وقد جاءت في ذلك آيات كثيرة، وذلك صيانةً للقلب، وحمايةً له من مداخل الشيطان.
وقد حرّمة الله على عباده بمكة وهذا يدل على عِظَم خطر الغناء، وأثره على العباد.
وقد أنزل الله تحريمه في سورة النجم وفي سورة لقمان وهما سورتان مكيتان.
يقول الله في كتابة العظيم: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)   (لقمان:6).


وهذا في سورة لقمان وهي سورة مكية.
من نظر إلى تأويل السلف من الصحابة وغيرهم؛ وجد أن ثمّة اتفاقًا على أن الغناء داخل في جملة المعاني التي تأتي على هذا الآية, واتفقت تفاسير الصحابة على هذا.
يقول الحاكم في " مستدركه ": في أوائل كتابه التفسير: ( وتفسير الصحابي الذي شهد الوحي هو عند الشيخين يعني البخاري ومسلم كالحديث المسند ).
وقال في موضع آخر: ( إنه في حكم المرفوع ).

وقد روى ابن جرير الطبري والبيهقي في "سننه" وغيرهم من حديث سعيد بن جبير عن أبي الصهباء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في تأويل هذه الآية : ( واللهِ الذي لا إله إلا هو إن لهو الحديث لهو الغناء ) ثم ذكرها ثلاثًا.
وابن مسعود وهو من أعلم الصحابة بالتفسير، إن لم يكن أعلمهم على الإطلاق.
وروى البخاري ومسلم من حديث ‏الأعمش ‏عن ‏مسلم ‏عن‏ ‏مسروق ‏‏عن ‏ ‏عبد الله‏ ‏قال: ‏((والذي لا إله غيره‏ ‏ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت, وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت, ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه ))‏.
بل قال مجاهد بن جبر، إمام المفسرين من التابعين, ومن قد عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، كما روى الترمذي بسند صحيح عن ‏سفيان بن عيينة ‏عن ‏الأعمش‏ ‏قال: قال‏ ‏مجاهد:‏ ‏لو كنت قرأت قراءة ‏ابن مسعود ‏لم أحتج إلى أن أسأل ‏ ‏ابن عباس ‏ ‏عن كثير من القرآن مما سألت.

كيف وقد أقسم- مع ذلك- ابن مسعود على هذا التفسير، وهو يتلو : ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ )) ( الزمر:60).
وجاء ذلك عن عبد الله بن عباس، كما رواه البخاري في " الأدب المفرد " وابن جرير الطبري, وكذلك ابن أبي شيبة وغيرهم, من حديث عطاء عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال : (( نزلت في الغناء وأشباهه)).
وروي تأويل ذلك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه حيث رواه ابن جرير الطبري من حديث قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال:(( هو الغناء )).
وكذلك رواه ابن جرير الطبري من حديث ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال:(( هو الغناء )).
 
وروي تفسير ذلك بـ ( أنه الغناء ) عن جماعة من السلف من المفسرين وغيرهم.
فقد روي تفسير ذلك عن مكحول وعكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وعمر بن شعيب وعلي بن بذيمة وعن غيرهم، كلّهم قالوا ( أنه الغناء ).

وقال الله سبحانه وتعالى في سورة النجم :(( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وأنتم سامدون)) (النجم:59-60).
السمود هو: اللهو بالغناء، كما جاء تفسيره عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري من حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس قال:  (( السمود هو : الغناء )).
وجاء تفسيره أيضًا عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري من حديث سفيان بن عيينة عن بن أبي نجيح عن عكرمة أنه قال: ( السمود هو: الغناء في لغة حِمْيَر) أي : لغة أهل اليمن.
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم مخاطبًا إبليس اللعين :((وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)) (الإسراء:64).

قد جاء عن غير واحد من المفسرين من السلف أن المراد بصوت إبليس هو الغناء.
فقد روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر كلّهم في " التفسير " من حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر أنه قال: إن صوت إبليس (( هو الغناء )).
وقد يشكل على البعض الاستدلال بهذا الأثر وفي إسناده ( ليث بن أبي سليم ) ؟
فيقال أن ( ليث بن أبي سليم ) وإن كان ضعيفًا بالاتفاق إلا أن روايته عن مجاهد بن جبر في التفسير خاصة صحيحه، وذلك أن  ليث بن أبي سليم  ضعيفٌ من قِبَل حفظه, ولكنّه يحدّث عن مجاهد بن جبر من كتاب, كما نص على ذلك ابن حبان في "الثقات" وفي "مشاهير علماء الأمصار" قال: (ما سمع التفسير عن مجاهد أحد غير القاسم بن أبي بزة, نظر الحكم بن عتيبة وليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح وابن جريج وابن عيينة في كتاب القاسم ونسخوه, ثم دلسوه عن مجاهد. 

إذًا فقد ائتمن من جهة روايته من حفظه، فإنه يروي من كتاب.
ومن ضعّف هذا الأثر فقد وَهِمَ وغَلِط، وليس له معرفة بمناهج الأئمة النّقاد.
وقال الله سبحانه وتعالى: ((وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) (الفرقان:72).

قال بعض المفسرين أن المراد بالزور هنا: هو الغناء.
فقد روي ذلك عن مجاهد بن جبر إمام أهل التفسير من التابعين كما رواه ابن جرير الطبري من حديث محمد بن مروان عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر أنه قال :         الزور هو الغناء.
وفي محمد بن مروان كلام معروف، ففي حديثه نظر.
وفي هذا التأويل نظر أيضًا.
ومن نظر إلى توافق المفسرين من الصحابة والتابعين على ذمّ الغناء الفاحش واللغو ؛ وجَدَ أن ذلك من صرائح السنة وظواهر الأدلة.
ومن نظر إلى بعض المحرمات التي قد أطبق العلماء على تحريمها، ووجد قِلّةً في النصوص الواردة في السنة  وجد أن قلّة النصوص إنما كانت لأجل أن ذلك كان من المسلّمات. 

وحينما دخلت العجمة وأبعد الناس عن مصطلحات السلف استشكل كثير من الناس ما ورد عن السلف من هذا التفسير، وما جاء عن بعضهم من ذكر الغناء، والمراد بذلك الشعر والحداء، وجعلوا ذلك من المتضادات, وهذا لا شك أنه من البُعْدِ عن لغة العرب وعدم الفهم.
وقد جاء في النهي عن الغناء والمعازف أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نذكر ما صحّ منها.
منها ما رواه الإمام البخاري في " الصحيح " فقال :  قال هشام بن عمّار: حدثنا صدقة بن خالد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثنا عطية بن قيس، عن عبد الرحمن بن غَنْمٍ، قال: حدثني أبو مالك أو أبو عامر، ووالله ما كذبني أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (( لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ)).

والمراد بالمعازف: آلات اللهو والطرب.
يقول ابن قدامة وغيره: آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة آلة للمعصية بالإجماع.
وقد أعلّ ابن حزم الأندلسي, وكذلك ابن طاهر ابن القيسراني هذا الحديث وحكما عليه بالضعف، وذلك أنه في حكم المعلّق في " صحيح الإمام البخاري ".
فيقال: أن هذا فيه نظر, ولا يجري على قاعدة ابن حزم بنفسه، وذلك أن ابن حزم قد صرّح في غير ماموضع من كتبه منها في كتاب " الإحكام " أن الراوي إذا حّدث عن راوٍ عدلٍ مثله- وكان قد سمعه_ بأي صيغة كانت سواء بالتحديث, أو بإنباء, أو قوله ( عن فلان ) أو قوله ( قال فلان ), أن ذلك محمول على السماع، وهذا منها.
إضافةً إلى ذلك أن هشام بن عمّار من شيوخ الإمام البخاري المعروفين، وقوله: ( قال ) لا يُردُّ إلا إن كان البخاري من أهل التدليس، وليس كذلك.
وعلى القول بأنه معلّق وأن البخاري لم يسمعه منه، فقد جاء موصولًا عن هشام بن عمّار من طُرقٍ عدّه، رواها نحو عشرة من الرواة عن هشام بن عمّار موصولةً.
فقد رواه أبو ذرّ راوِيَةُ " صحيح البخاري " فقال : حدثنا العباس بن فضل، قال : حدثنا الحسين بن إدريس، قال: حدثنا هشام بن عمّار، وساقه بتمامه.
وكذلك رواه الحسن بن سفيان - ومن طريقه: أبو بكر الإسماعيلي في" مستخرجه " - عن هشام بن عمار به.

وكذلك قد رواه الطبراني في " معجمه " من حديث جعفر بن محمد الفريابي، وموسى بن سهل الجوني عن هشام بن عمّار عن صدقه بن خالد به.
وكذلك قد رواه أبو نعيم في " مستخرجه " من حديث أبي بكر الباغندي وعبدان بن محمد المروزي عن هشام بن عمّار به.
وكذلك قد رواه ابن حبان في " الصحيح " من حديث الحسين بن عبد الله القطان عن هشام بن عمّار به.
وكذلك قد رواه الطبراني في " مسند الشاميين " من حديث محمد بن يزيد بن عبد الصمد عن هشام بن عمار به.
وكلّها أسانيد صحيحة عن هشام بن عمار، وهذا الحديث صحيح بلا ريب. 
وأما من أعلّه بـ صدقة بن خالد فيجاب عنه بأنه قد تابعه ( بشر بن بكر ) عند أبي داود في " سننه " عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عطية بن قيس عن عبد الرحمن بن غَنْمٍ عن أبي مالك أو أبي عامر.
وقد رواه البيهقي والإسماعيلي في " الصحيح " من حديث بشر بن بكر بتمامه, كما رواه الإمام البخاري.

وإن كان أبو داود قد رواه في " سننه " مختصرًا، إلا أنه بتمامه, وتمام سياقه قد جاء عند البيهقي، وعند أبي بكر الإسماعيلي بذكر( المعازف).
وقد أعلّه ابن حزم أيضًا بالاضطراب في إسناده، وذلك أن الراوي قال : حدثني أبو مالك أو أبو عامر الأشعري.
قال: ولم يضبط اسمه، مما يدل على أنه مجهول، فهو مردود.

0 التعليقات :

Copyright @ 2013 مؤسسة الاسلام .