الحديث و الدعاء و الحكمة

حكم الغناء.

ومنهج ابن حزم الأندلسي أنه لا يقبل المجاهيل ممن لم يسمَّ من الصحابة، وهذا قول مردود، ولا حجّة به، ولا أعلم أحدًا من المعتبرين من الأئمة النّقاد من ردَّ مجاهيل الصحابة، بل هم مقبولون قاطبة.
ومازال العلماء قاطبة يحتجّون بمجاهيل الصحابة، كيف وقد سُمّو وعُرِفُوا ؛ فأبو مالك الأشعري : صحابي مشهور.

والصواب أن الإسناد إليه، وأن الوهم من عطية بن قيس، ولذلك أخرج الحديث الإمام أحمد في " مسنده " وابن أبي شيبة في " مصنفه "، والبخاري في " التاريخ الكبير " من حديث مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غَنْمٍ عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (( ليشربنّ أُناس من أُمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف)).
وجزم بذلك الإمام البخاري- رحمه الله- كما في " التاريخ " وقال:( إنما يُعْرف عن أبي مالك الأشعري) أي: من غير شك وهو الصواب.
وعلى كلٍّ فردُّ ابن حزم الأندلسي لهذا الحديث بجهالة الصحابي وعدم الجزم به ليس في محله.

وابن حزم الأندلسي رغم جلالته وفضله وعلمه وحفظه وسعةِ إدراكه؛ إلا أنّه كثير الوهم والغلط في الرواة، ولذلك رد بعض الأحاديث الصحيحة، وحكم بالوضع على بعض الأحاديث في الصحيحين، وله رسالة ذكر فيها حديثين، وجعلهما موضوعَين، وحكم عليهما بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهما في الصحيحين.
وقد نص الأئمة على وهم ابن حزم وغلطه في هذا الباب, كما نص عليه ابن عبد الهادي في كتابة " طبقات علماء الحديث ".

وكذلك قد نص عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابة " التهذيب " وكذلك في " اللسان " وكذلك في " الفتح ".
ولما ترجم الحافظ ابن حجر للإمام الترمذي في كتابه " تهذيب التهذيب " قال:( قال ابن حزم: محمد بن عيسى بن سَورَة الترمذي مجهول).
 قال ابن حجر: ( وأما ابن حزم فقد نادى على نفسه بعدم الاطلاع ).
وقد يقول قائل أنه لم يعرفه ولم يطّلع على شيء من كتبه، ولا على سعة حفظه، فإن ابن حزم قد حكم بالجهالة على أُناسٍ من الأئمة معروفين، كأبي القاسم البغوي، وإسماعيل بن محمد الصفار، وابي العباس الأصم وغيرهم.

ومن قاعدة ابن حزم الأندلسي- رحمه الله-: أن من لم يعرفه بداهة يحكم عليه بالجهالة، وقد حكم على رواةٍ كُثُرٍ، وقد تتبّعها بعض الأئمة في مصنّف, وهو الحافظ قطب الدين الحلبي ثم المصري من ( المحلى )، ولا أعلم أهو مطبوع أم لا ؟
ومن نظر في كتاب " المحلّى " ونظر إلى من حكم عليه بالجهالة من الرواة المعروفين عرف ذلك، بل حتى من الصحابة، فقد حكم على يعلى بن مرّه أنه مجهول، وهو صحابي معروف.

ولذلك قال الزيلعي رحمه الله- حينما علّق على أوهام بن حزم في ردّه للأحاديث الصحيحة الصريحة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحكمه على أحاديث بأنها معلولة وهي ظاهرة الصحة- قال الزيلعي:( ولابن حزم من ذلك مواضع كثيرة جدًا من الوهم والغلط في أسماء الرواة ).

يقول ابن القيم في كتابه "الفروسية" : (تصحيحه للأحاديث المعلولة، وإنكاره لتعليلها نظير إنكاره للمعاني والمناسبات، والأقيسة التي يستوي فيها الأصل والفرع من كل وجه، والرجل يصحح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه, وهذا بين في كتبه لمن تأمله).
وقول ابن القيم هذا ظاهر جلي لكل منصف، عرف كتب ابن حزم، وما أعلّ به ابن حزم الأندلسي هذا الحديث فإنه ليس بمعتبر مطلقًا، مع ظهور الأدلة، ووضوح الإسناد، ونقاوته، فهو كالشمس صحةً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.
قوله- صلى الله علبه وسلم-: (( يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ)).

قوله: ((يَسْتَحِلُّونَ)): قد حمل الاستحلال بعض العلماء على معانٍ عدّه:
* منهم من حمله على إباحة المحرم صراحةً، أي أنه يكابر في ذلك ويعلم أنه محرم، وينص على أنه حلال مكابرةً للنص.
ومن أحلّ المعازف والغناء المحرم فقد نص بعض الأئمة على تكفيره.
نص بعض أصحاب أبي حنيفة على تكفيره فقالوا: إن سماع الغنى فسوق، والتلذّذ به كفر.

وكذلك القاضي عياض، وكذلك إمام الحنابلة ابن قدامة حكاه عنه ابن الحنبلي، حكم بكفر من أباح الغناء، ومن حكم بكفر مستحل الغناء كذلك البزازي وزين الدين الكرماني من الحنفية.
وقد تعقّب ابن الحنبلي- رحمه الله- كما في " ذيل طبقات الحنابلة " ابن قدامه، وذكر أنه غلوّا.

* وحمل بعضهم الاستحلال في حديث أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- على المبالغة فيه بالسماع حتى يُظن أنه ممن يرى إباحته.
* وحمله بعضهم وممن نص على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية على أن المراد بالاستحلال: الأخذ بالتأويل وبالشبهات لإباحة الغناء، كمن يقول إن الغناء إنما هو أصوات وألحان, كأصوات الطير وأصوات الريح وأصوات الإنسان، حينما يمشي في الأرض، وكطرق الأبواب والضرب على الحديد، فإنما هي تُجمع ويؤلف بينها لا غير، فهي أصوات من الطبيعة.

أو من يحمل بعض النصوص في الشرع في تحليل المحرم, والترخيص فيه في موضع، على أنها إباحة له وتهوين لأمره، كمن ينظر إلى تحريم الشارع للبس الحرير؛ فيقال: أن الشارع قد رخّص فيه-على قول كثير من الفقهاء-في الجهاد في سبيل الله كما جاء عن ابن سيرين وعطاء، وجاء بالنص الترخيص بالأصبع والأصبعين من الحرير.
وهذه التآويل الثلاثة كلّها موجودة عند الأصناف الثلاثة التي قد ذكرها ابن المبارك في قوله :
                وهل أفسد الدين إلا الملوك  **  وأحبار سوء ورهبانها
ثم إن قول النبي- صلى الله علبه وسلم-: (( يأتي أقوام يستحلّون الحر والحرير والخمر والمعازف)).
من علامات نبوته- صلى الله علبه وسلم-، وليس بجديد وكل ما حدث فهو من علامات نبوته- صلى الله علبه وسلم- كالذين صنّفوا في إباحة المعازف وغيرها من المحرمات.
وينبغي للإنسان أن يستبشر بهذا القول من جهة,أعني إستحلال المعازف وغيرها؛ لأنه تصديق لخبر أخبر به النبي - صلى الله علبه وسلم-، ولذلك فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- حينما قال لعمّار: (( تقتلك الفئة الباغية)).

فَرِحَ من فرِح من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا لذات القتل؛ لأن قتله جريمة، ولكن لصدق إخبار النبي- صلى الله علبه وسلم- ,وبيان الحق وظهوره, وهذا من دلائل صدقه وعلامات نبوته-عليه الصلاة والسلام-.
ومما جاء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من النص على تحريم الغناء:
ما رواه الإمام أحمد في " مسنده " وأبو داود في " سننه " من حديث عبد الكريم الجزري, عن قيس بن حبتر عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ))

والكوبة: قيل: هي الطبل، وقيل : نوع من أنواع المعازف، وقيل: إنها اسم يطلق على سائر أنواع المعازف.

و إسناده صحيح.
وفي إسناده عبد الكريم الجزري، وقد تابعه علي بن بذيمه عند الإمام أحمد في " مسنده "؛ عن قيس عن عبد الله بن عباس.
وجاء في ذلك: ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلاّم والبيهقي أيضًا من حديث حبيب بن الشهيد وهشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة: (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نهى عن كسب الزمارة)).

وإسناده صحيح.
ومن نظر إلى هذه النصوص وجدها صريحة في تحريم المعازف.
وليُعْلم: أن ثمّة أمرين:
الأول: هو الغناء.
الثاني: المعازف,وهي آلات اللهو والطرب.
ويخلط كثير من الناس بينها، فالغناء باب واسع يدخل فيه ( الأناشيد ) والألحان والحداء والكلام المسجوع.

وأما آلات الطرب فلم يرد من وجه يثبت القول بجوازها عن الصحابة,ولا عن أحدٍ من التابعين,ولا من أتباع التابعين,ولا من الأئمة المتبوعين.
ولذلك يحمل بعض الجهلة ما جاء من بعض النصوص في إباحة الحداء، وما جاء في بعض النصوص من ( الغناء ) المرادِ به الأشعار يحملها على آلات المعازف واللهو، وهذا جهل شنيع، ومخالفة صريحة، ومكابرة عظيمة لنصوص الشرع.
وهو وضوحًا عند الأئمة بالمكان البين، حتى قال ابن قدامة: ما ظننت أن الجهال يخفى عليهم هذا.

وقد وقع في ذلك كثير من المتأخرين ممن حرمه الله البصيرة والنظر النافذ في كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولغة العرب. 
لقد اتفق الأئمة من الصحابة على تحريم ذلك، ولهذا لم ينقل عن أحد منهم القول بجوازه، بل قد نصوا على التحريم.

0 التعليقات :

Copyright @ 2013 مؤسسة الاسلام .