إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله – عز وجل - فيها»([1]).
وعن معاذٍ بن جبل قال: سألت رسول الله r: أي الأعمال أحبُّ إلى الله – عز وجل؟ قال: «أن تموت
ولسانُك رطبٌ من ذكر الله – عز وجل»([2]).
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر
الله – عز وجل.
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرها؛ فجلاؤه بالذكر؛ فإنه
يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء؛ فإذا ترك صدئ، فإذا ذكره جلاه.
وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب.
وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر.
فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدؤه بحسب
غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه؛ فيرى الباطل في
صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لمَّا تراكم عليه الصدأ أَظْلمَ؛ فلم تظهر
فيه صورة الحقائق كما هي عليه؛ فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ وركبه الران فسد
تصوره وإدراكه؛ فلا يقبل حقًّا، ولا ينكر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب، وأصل
ذلك من الغفلة، واتباع الهوى؛ فإنها يطمسان نور القلب، ويعميان بصره.
قال تعالى: }وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا{ [الكهف: 28].
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل، فلينظر: هل هو من أهل الذكر أو من
الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من
أهل الغفلة كان أمرُه فرطًا.
ومعنى الفُرُط قد فُسِّرَ بالتضييع؛ أي: أمره الذي يجب أن يلزمه، ويقوم به،
وبه رشده وفلاحه ضائع قد فَرَّطَ فيه. وفُسِّرَ بالإسراف: أي: قد أفرط. وفُسِّرَ
بالإهلاك. وفُسِّرَ بالخلاف للحقِّ.
وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود أن الله – سبحانه وتعالى – نهى عن طاعة مَن جمع هذه الصفات؛
فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه؛ فإن وَجَدَهُ كذلك فليبعد منه، وإن
وجده ممن غلب عليه ذكر الله – تعالى – واتباع السُّنَّة وأمرُه غير مفروط عليه؛ بل
هو حازم في أمره، فليتمسك بغرزه ([3]).
ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر؛ فمثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر
ربه، كمثل الحي والميت.
* * *
فوائد الذكر
ثم قال ابن القيم – رحمه الله تعالى: وفي الذكر أكثر من مائة فائدة:
إحداها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
الثانية: أنه يرضي الرحمن – عز وجل.
الثالثة: أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
الخامسة: أنه يقوي القلب والبدن.
السادسة: أنه ينور الوجه والقلب.
السابعة: أنه يجلب الرزق.
الثامنة: أنه يكسو الذاكرَ المهابةَ والحلاوة والنّضرة.
التاسعة: أنه يورِّثه المحبةَ التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار
السعادة والنجاة.
وقد جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر؛ فمن أراد أن ينال
محبة الله – عز وجل - فلْيلهج بذكره؛ فإنه الدرس والمذاكرة؛ كما أنه باب العلم؛
فالذكر باب المحبة، وشارعها الأعظم، وصراطها الأقوم.
العاشرة: أنه يورثه المراقبةَ، حتى يُدخله في باب الإحسان؛ فيعبد الله كأنه
يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان؛ كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول
إلى البيت.
الحادية عشرة: أنه يورثه الإنابة؛ وهي الرجوع إلى الله عز وجل، فمتى أكثر
الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله؛ فيبقى الله – عز وجل –
مفزعه وملجأه، وملاذه، وقبلة قلبه، ومهربه عند النوازل والبلايا.
الثانية عشرة: أنه يورث القرب منه؛ فعلى قدر ذكره لله – عز وجل – يكون قربه
منه، وعلى قدر غفلته يكون بعده عنه.
الثالثة عشرة: أنه يفتح له بابًا عظيمًا من أبواب المعرفة، وكلما أكثر الذكر
ازداد من المعرفة.
الرابعة عشرة: أنه يورثه الهيبة لربه – عز وجل – وإجلاله؛ لشدة استيلائه
على قلبه، وحضوره مع الله تعالى؛ بخلاف الغافل؛ فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.
الخامسة عشرة: أنه يورِّثه ذكر الله – تعالى – له؛ كما قال – تعالى: }فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ{ [البقرة: 152].
ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفًا.
وقال r فيما يروي عن ربه – تبارك وتعالى: «مَن ذكرني في
نفسه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منهم»([4]).
السادسة عشرة: أنه يورِّث حياة القلب:
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية – قدَّس الله تعالى روحه – يقول: الذكر للقلب
مثل الماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!
السابعة عشرة: أنه قوت القلب والروح؛ فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا
حيل بينه وبين قوته.
وحضرتُ شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله – تعالى –
إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غَدْوَتي، ولو لم أتغدَّ
الغداء سقَطَتْ قوَّتي. أو كلامًا قريبًا من هذا.
وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجماع نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك
الراحة لذكر آخر. أو كلامًا هذا معناه.
الثامنة عشرة: أنه يورِّث جلاءَ القلب من صداه كما تقدم في الحديث.
وكل شيء له صدأ، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة
والاستغفار، وقد تقدم هذا المعنى.
التاسعة عشرة: أنه يَحُطُّ الخطايا ويُذهبها؛ فإنه من أعظم الحسنات،
والحسنات يذهبن السيئات.
العشرون: أنه يزيلُ الوحشةَ بين العبد وبين ربه – تبارك وتعالى؛ فإن الغافل
بينه وبين الله – عز وجل – وحشة لا تزول إلا بالذكر.
الحادية والعشرون: أن ما يذكر به العبدُ ربَّه – عز وجل – من جلاله،
وتسبيحه، وتحميده، يذكر باصطحابه عند الشدة.
الثانية والعشرون: أن العبد إذا تعرَّف إلى الله – تعالى – بذكره في الرخاء
عرفه في الشدة.
الثالثة والعشرون: أنه ينجِّي من عذاب الله – تعالى – كما قال معاذ – رضي
الله عنه - ويروى مرفوعًا: «ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله – عز وجل –
من ذكر الله - تعالى»([5]).
الرابعة والعشرون: أنه سبب تنزيل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة
بالذاكر؛ كما أخبر به النبي r.
الخامسة والعشرون: أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة، والنميمة، والكذب،
والفحش، والباطل.
فإن العبد لا بد له من أن يتكلم؛ فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى، وذكر
أوامره؛ تكلم بهذه المحرمات، أو بعضها، ولا سبيل إلى السلامة منها ألبتة إلا بذكر
الله تعالى.
والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك؛ فمن عوَّد لسانه ذكر الله صان لسانه عن
الباطل واللغو، ومن يبس لسانه عن ذكر الله – تعالى - ترطَّب بكل باطل ولغو وفحش،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
السادسة والعشرون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة
مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبها إليه، وأولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا
والآخرة.
السابعة والعشرون: أنه يسعد الذاكر بذكره، ويسعد به جليسه، وهذا هو المبارك
أينما كان، والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته، ويشقى به مجالسه.
الثامنة والعشرون: أنه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة؛ فإن كان مجلس لا
يذكر العبد فيه ربه – تعالى – كان عليه حسرة وتِرة يوم القيامة.
التاسعة والعشرون: أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله – تعالى –
العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه، والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف، وهذا
الذاكر مستظل بظل عرش الرحمن – عز وجل.
الثلاثون: أن الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين.
الحادية والثلاثون: أنه أيسر العبادات، وهو من أجَلِّها وأفضلها؛ فإن حركة
اللسان أخفُّ حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من الإنسان في اليوم والليلة
بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة؛ بل لا يمكنه ذلك.
الثانية والثلاثون: أنه غراس الجنة؛ فقد روى الترمذي في «جامعه» من حديث
عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله r: «لقيتُ ليلة أُسري بي إبراهيم الخليل – عليه السلام،
فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء،
وأنها قيعانٌ، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».
قال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث ابن مسعود ([6]).
وفي الترمذي من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي r: «من قال: سبحان الله وبحمده؛ غُرست له نخلة في
الجنة». قال الترمذي: حديث حسن صحيح ([7]).
الثالثة والثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رُتِّب عليه لم يرتَّب على غيره
من الأعمال؛ ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله r قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب،
وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى
يُمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه. ومن قال: سبحان الله
وبحمده، في يوم مئة مرة؛ حُطَّت عنه خطاياهُ، وإن كانت مثل زبد البحر»([8]).
وفي «صحيح مسلم» عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله r: «لأن أقول: سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛
0 التعليقات :
إرسال تعليق